قد تكون رواية السينما الأميركية عن "الهنود الحمر" أكثر دلالة، من أي رواية أخرى، في القدرة على تزوير الحقيقة. وكانت تلك السينما تقدّم روايتها خالية من التبريرات والألاعيب اللفظية التي بدأ الفكر الأميركي يفبركها في ما بعد. فـ"الهنود"، بحسب لغة تلك الأفلام، شعب من المتوحشين الذين يقتلون البشر ويسلخون فروات رؤوسهم. وبفضل تلك الرواية أذكر أننا لم نكن نتعاطف مع "الهنود الحمر" في الأفلام الأميركية التي كانت تعرض في صالات السينما في الستينيات بكثرة، بل ننحاز للراوي الذي يقدّم الفيلم من خلال وجهة نظره.
وبات بعض الممثلين الأميركيين الذين كانوا يؤدون دور رعاة البقر (الكاوبوي) هم الرموز والأبطال الذين يمثلون حلم الوجود والقوة على البقاء في خيال عشرات الآلاف من الفتيان والشبان السوريين. ولا أذكر أن الشفقة أو التعاطف كانتا من بين المشاعر التي خامرت تفكير جيلنا في تلك الحقبة تجاه الهندي الأحمر.
ولذلك فإن فكرة الإبادة والتهجير كانت تمرّر من خلال تلك الأفلام المعدة بإتقان، والمزوّدة بحكايات المغامرات المشوّقة إلى المخيلة الجمعية للأجيال العربية التي راح أبناؤها يتدرّبون على تسويغ العنف والإبادة وتصفية السكان الأصليين من قبل مجموعات قطاع الطرق والقتلة الذين كانوا يشرّعون قتل "الهنود الحمر" وتشريدهم وتهجيرهم من بيوتهم ومناطق سكنهم، دون أن يخطر في وعي العربي أن تشريع الإبادة الجماعية في التاريخ الأميركي، الذي يسجل في السينما على أنه نوع من إعادة إعمار تلك الأرض، وتحويلها إلى الجنة الموعودة، إنما كان يحمل في طياته تسويغاً فكرياً وأخلاقياً للتهجير الصهيوني للفلسطينيين.
أظن أن هذا التناقض كان سمة من سمات الضمير العربي في ستينيات القرن العشرين، فمن جهة كانت الثقافة العربية تشن حملة ضد محاولات الهيمنة الأميركية، ومساعي ضرب ما عرف باسم حركة التحرّر العربية، وضد ما عرف بالغزو الثقافي الأميركي، ومن جهة ثانية كانت الأنظمة تسمح بتمرير الرواية الأميركية عن سكان أميركا الأصليين الذين ألصق بهم اسم "الهنود الحمر".
يسمي منير العكش المشروع كله: "فكرة أميركا". وقد جرت استعارة فكرة "أرض الميعاد" من التوراة كما سماها الأميركيون الأوائل الذين استولوا على الأرض، كي يمنحوا أنفسهم الحق في الإبادة، بحيث تمكنوا من قتل قرابة 112 مليونا من أهل البلاد الأصليين.
الخطير هو أن هذه الفكرة التي اعتقدنا أنها تلاشت مع تنامي الوعي السياسي العربي، لا تزال حية وقوية وممكنة، لا في التفكير والمخيلة، بل في الواقع العملي للعربي نفسه، الذي بات يسوّغ التهجير، ويتفهّم الإبادة كإجراءات وقائية أو علاجية.
واللافت أن العالم كله يكاد يتحوّل في القرن الحادي والعشرين إلى تبني العمل بفكرة أميركا، أي بفكرة التهجير والاستيطان، بل يبدو أن "إسرائيل" كفكرة تتسلل إلى ضمير كثير من العرب، المثقفين منهم وغير المثقفين، بحيث تغدو مكوّناً فكرياً يتماهى مع حلم الاستعمار الجديد. ويظهر قادة الدول في عالمنا مثل أولئك الكاوبوي الذين يحملون مسدساتهم وبنادقهم لمطاردة "الهنود الحمر"، وقتلهم، والجلوس بعد ذلك قريباً من جثثهم من أجل العزف على الغيتار.