فشل مفاوضات سد النهضة: ابحث عن اتفاق المبادئ

19 يونيو 2020
استفادت إثيوبيا من اتفاق المبادئ لفرض أجندتها(إدواردو سوتيراس/فرانس برس)
+ الخط -
كشف فشل المفاوضات الفنية الأخيرة حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة وتناقض البيانات الصادرة عن وزراء الري في كل من مصر والسودان وإثيوبيا، عن "عمق الخلافات المفاهيمية" بحسب التعبير الذي استخدمه وزير الري السوداني ياسر عباس. وهو تعبير يصلح لوصف كل ما مرت به مفاوضات سد النهضة في العقد الأخير، توسطه حدث مفصلي أدى إلى تخلي مصر عن زمام المبادرة وخسارة العديد من الأوراق التي كانت تلوّح بها سابقاً، وأهدى إلى إثيوبيا اعترافاً مطلقاً بحقها في إنشاء السد وملئه وتشغيله وفرصة واسعة للتلاعب السياسي والدبلوماسي والفني، ألا وهو توقيع اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015 في الخرطوم. وهو الاتفاق الذي كانت مصر تسعى إليه بتصوّر خاص من الرئيس عبد الفتاح السيسي بأنه سيضمن حق الشعب المصري في الحياة، فإذ به ينقلب لصالح إثيوبيا، التي تتمكن حتى اليوم من استخدامه بصورة مربحة لها.

واللافت أن مصر وإثيوبيا استندتا خلال المفاوضات الأخيرة إلى اتفاق المبادئ ذاته لتبرير المقترحات المتعارضة بشأن 5 قضايا رئيسية فنية وقانونية: الأولى مدى إلزامية القواعد الخاصة بالتشغيل والملء الأول والمستمر للسد، والثانية مدى تمتع إثيوبيا بالحق في ملء السد للمرة الأولى قبل التوصل إلى اتفاق على تلك القواعد، والثالثة كمية المياه التي ستسمح إثيوبيا بتمريرها في أوقات الجفاف والجفاف الممتد، والقضية الرابعة هي استحداث آلية مستدامة لفض النزاعات التي تنشأ بسبب الملء والتشغيل، والخامسة مدى تمتع إثيوبيا بالحق في إنشاء مشاريع على مجرى النيل الأزرق من دون إذن مصر والسودان، بما قد يؤدي إلى المساس بحصتيهما التاريخيتين في مياه النيل.

في بادئ الأمر، حمل اتفاق المبادئ اعترافاً مصرياً بحق إثيوبيا في بناء السد، الأمر الذي لم تكن مصر قد بادرت به من قبل، وأقر ثانياً بحقها السيادي في إدارته، ولم يقرر أي جزاء قانوني دولي عليها في حال مخالفة الاتفاقيات السابق توقيعها في إطار الإدارة المشتركة لمياه النيل، وبصفة خاصة عامي 1902 و1993.

وعلى الرغم من أن لجنة الخبراء الدولية، وكذلك تقريري المكتبين الاستشاريين اللذين تمت الاستعانة بهما في المفاوضات السابقة، أكدت الآثار السلبية الاجتماعية والاقتصادية التي ستلحق بمصر جراء المشروع، إلا أن توقيع اتفاق المبادئ الذي أصرّ السيسي عليه بل يعتبره من إنجازاته، يوفّر حماية للتصرفات الإثيوبية الحالية. فالمبدأ الخامس من الاتفاق، الذي يتحدث عن التعاون في الملء الأول وإدارة السد، يكتفي بالنص على التشارك في وضع "الخطوط الإرشادية والقواعد" من دون تفاصيل التشغيل، وتجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت لآخر، بشرط "إخطار" وليس أخذ رأي أو استئذان مصر والسودان.

وتستند إثيوبيا للبند الثاني من هذا المبدأ لتبرر لنفسها وللعالم أن القواعد التي يجب الاتفاق عليها لا يمكن اعتبارها ملزمة بأي حال، لأنها موصوفة في الاتفاق بأنها "استرشادية"، فضلاً عن كونها غير مقتصرة على خطة واحدة يجب اتّباعها، فهي بحسب النص "ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد". ويحمل البند نفسه أيضاً نصاً آخر لا يخدم الأهداف المصرية، متحدثاً عن "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد"، مما تعتبره إثيوبيا سنداً لها لتبدأ الملء الأول بالفعل بالتوازي مع المناقشات، طالما أن السد لم يكتمل بناؤه حتى الآن.

وسبق أن ادعى وزير الطاقة والمياه الإثيوبي سيليشي بيكيلي أن بلاده تنفذ المبدأ الخامس من الاتفاق "بالحرف الواحد"، وأنها أطلعت دولتي المصب على جميع الاحتمالات خلال مفاوضات واشنطن، وأن حالة الجفاف تحديداً تُقدّر احتمالاتها بأقل من أربعة في المائة خلال أول عامين وفقاً لأكثر التحليلات تشاؤماً، وأنها تلتزم بعدم الإضرار بالدولتين في تلك الحالة، وأن الإخطار المسبق الوحيد الذي تكلف به إثيوبيا ضمن الاتفاق هو إخطار دولتي المصب بأية ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد. ويتضمن هذا المبدأ بنداً آخر تفسره إثيوبيا لصالحها فقط، هو "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر". وعليه، ترى إثيوبيا أن مصر اعترفت بتوقيعها على هذا البند بالسيادة المطلقة لها على السد، وترفض مشاركة مصر والسودان في تحديد قواعد التشغيل طويلة الأمد، إلا في حدود التأكد من "عدم الإضرار" باعتباره مبدأً منصوصاً عليه في الاتفاق ذاته.



بالتالي، فإن القراءة الإثيوبية لهذه العبارات المطاطة وحمالة الأوجه التي وقّعت عليها مصر والسودان قبل 5 سنوات، تسمح بتملص أديس أبابا من واجباتها الطبيعية، وفقاً لقواعد مشاركة الأنهار والقوانين والاتفاقيات الدولية ذات الصلة. وتُقلّل أيضاً من شأن البند الذي ينص على أنه "لضمان استمرارية التعاون والتنسيق حول تشغيل سد النهضة مع خزانات دولتي المصب، سوف تنشئ الدول الثلاث، من خلال الوزارات المعنية بالمياه، آلية تنسيقية مناسبة فيما بينهم"، باعتبار أن الآلية التنسيقية لا يمكن أن تكون ملزمة أو ترتب أضراراً على عدم الالتزام، عكس ما تطلب مصر من البداية، وانضم لها السودان أخيراً في ذلك.

وتكمن شياطين أخرى في تفاصيل المبدأ العاشر الذي ينظم "التسوية السلمية للمنازعات"، وهو ما ترتكز إليه إثيوبيا لرفض جميع المقترحات الخاصة بآلية التحكيم الملزمة، فصياغة البند الثاني من المبدأ تفتح باب الوساطة الدولية الملزمة، ولكن بشرط "اتفاق الدول الثلاث على ذلك". وهو ما لا يتوفر رسمياً في أي وضعية سابقة أو حالية، بدليل إجهاض مفاوضات واشنطن التي كانت أقرب من أي وقت مضى للتوصل إلى اتفاق.

كما أن البند الأول يحرم مصر والسودان من إمكانية اللجوء إلى جهات دولية لحسم القضايا العالقة، حيث ينص فقط على أن "تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتها الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقاً لمبدأ حسن النوايا".

ومساء أمس الأول، وبعد فشل المفاوضات، ذكرت إثيوبيا أن اجتماع وزراء الري "انتهى باتفاق على استمرار التفاوض، على أن يستشير الوفد السوداني رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، حول مدى إمكانية تدخل رؤساء الحكومات لحل المشاكل القانونية العالقة التي تعيق التوصل إلى اتفاق". بذلك، قدمت إثيوبيا نتيجة للاجتماع تختلف عن النتيجتين اللتين أعلنت عنهما كل من مصر والسودان.

فقد أعلن وزير الموارد المائية والري المصري محمد عبد العاطي، أن "الاجتماعات لم تحقق تقدما يذكر"، وأنه قد تم "إنهاء المفاوضات" نتيجة التعنت الإثيوبي، وأن أديس أبابا رفضت إحالة الأمر إلى رؤساء الحكومات. من جهته، قال نظيره السوداني ياسر عباس إن "المفاوضات توقفت"، وإن بلاده اقترحت إحالة الملف القانوني إلى رؤساء الحكومات، باعتبار أن حلحلته تتطلب إرادة سياسية عليا في الدول الثلاث. وعبر البيان الرسمي عادت أديس أبابا إلى التصعيد في مواجهة مصر والسودان الرافضتين لملء السد للمرة الأولى من دون التوصل إلى اتفاق نهائي على جميع قواعد الملء والتشغيل، فقالت: "تملك إثيوبيا الحق في الملء والتشغيل بناء على اتفاق المبادئ. ومع ذلك، فإننا على اعتقاد بإمكانية توصل الدول الثلاث إلى حل يحمل المكاسب للجميع".

المساهمون