فشل قمة بيروت: ثمن الانقسام المحلي والاصطفاف الإقليمي

بيروت

محمد شبارو

avata
محمد شبارو
19 يناير 2019
E3171434-6213-4999-A57B-FC7C4108472C
+ الخط -

عندما عاد لبنان إلى الساحة الدولية والعربية بعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) أراد يومها رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري إظهار هذه العودة من بوابات عدة، خصوصاً أنه سبقتها ورشة إعمار ضخمة شملت المرافق وشبكة المواصلات والبنى التحتية. وضع الحريري يومها عدداً من الأهداف نصب عينيه سياسياً عبر القمة العربية التي عُقدت في بيروت في عام 2002، وكذلك القمة الفرنكوفونية في العام نفسه. وسبقتها وتلتها نشاطات رياضية، مثل دورة الألعاب العربية (1997)، مستغلاً علاقاته العربية والدولية، ونجاحه في إثبات عودة لبنان لتأدية دوره في محيطه العربي والدولي على حدّ سواء، ومستغلاً أيضاً مرحلة من الوئام الإقليمي والدولي كان لبنان ساحته منذ ما بعد تنفيذ اتفاق الطائف (1989).

يبدو الكلام عن هذه المرحلة السياسية في التاريخ اللبناني الحديث مبرراً لدى كثر في الساحة السياسية، وقد استشهد به عدد لا بأس به من قيادات الصف الأول في لبنان في الأسابيع الأخيرة، في نقاشاتهم المتعلقة بالقمة الاقتصادية العربية في بيروت (انطلقت أعمالها التحضيرية أمس الجمعة وتختتم غداً الأحد)، وسط تمثيل ضعيف، بعدما اعتذر معظم الرؤساء والملوك عن الحضور وخفض مستوى التمثيل إلى حده الأدنى في القمة. وسجّل عداد الحضور مزيداً من الانخفاض على مستوى التمثيل، ورسا حتى الآن على مشاركة رئيسين هما: الموريتاني والعراقي. واعتذر أمير الكويت صباح الجابر الصباح وقبله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الفلسطيني محمود عباس، نظراً لوجوده في نيويورك لرئاسة مجموعة "77 +" الصين، كذلك انضم أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى قائمة المعتذرين بحسب المعلومات المتداولة، واعتذر الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي.

واعتُبر الأمر دلالة على عمق الأزمة السياسية ومدى ترهّل الدولة وتعثر محاولات إنعاشها وفقدانها عوامل التأثير السياسي، بسبب عدم ثقة المجتمع العربي أو الدولي بها، وهو ما انعكس في الحضور الهزيل في القمة. كما أن السخرية التي تعاطى بها الشارع اللبناني مع انعقاد القمة وهزالتها تكفي للدلالة على الوضع، خصوصاً بعد أن ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات الساخرة من انخفاض مستوى المشاركة على مستوى الرؤساء والملوك والأمراء، بوصفها سابقة في تاريخ انعقاد القمم العربية، حتى الاقتصادية منها، وبسبب حجم التدابير الأمنية لقمة فشلت قبل أن تعقد، أو للتكاليف الباهظة التي تكبدتها الدولة من دون مردود فعلي.

ويرتبط الإحجام العربي عموماً عن المشاركة في القمة بجملة أسباب، بينها تموضع لبنان حالياً دولياً وعربياً. وبينما كان في فترة الحريري الأب نقطة تلاقٍ سورية وسعودية وفرنسية وأميركية، تحول لبنان إلى ساحة حرب بين المحاور الإقليمية والدولية. ولعل الأيام الأخيرة التي شهدت زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل إلى لبنان والتصريحات التي رافقتها، والردود الإيرانية التي تبعتها، تلخص الحال والنظرة إلى لبنان بوصفة دولة خاضعة للنفوذ الإيراني، وإن كان التمسك بالدولة اللبنانية خياراً عربياً وأميركياً في المواجهة مع المحور الإيراني و"حزب الله".



وبما يتعلق بالإحجام الخليجي تحديداً، ذكرت مصادر لبنانية مطلعة لـ"العربي الجديد"، أن "بعض القيادات في لبنان (في إشارة إلى الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله)، قدّمت خطابات قوية ضد الدول الخليجية، تفرض استحالة حضور قياداتها أولاً لأسباب أمنية تتعلق بالسلامة الشخصية".

وبينما تشير المصادر إلى أن "لبنان نجح على مستوى التنظيم في ترتيب كل ما هو مطلوب منه"، إلا أنها تلفت إلى أن هذا الأمر ليس معياراً لتوفر عوامل حضور الزعماء العربي، خصوصاً أن البلد اليوم بالنسبة لهم خاضع لقوة سلاح "حزب الله". وهو ما برز بوضوح في العقد الأخير، وبات عملياً بنظرهم أقوى من الدولة اللبنانية التي تتنازعها الخلافات بين الأحزاب والطوائف، والتي تبدو، وإن كان الاستقرار الأمني سائداً، عاجزة عن فرض هيبتها وسطوتها وحضورها.

فضلاً عن ذلك، وجّه لبنان رسالة سلبية إلى العالم العربي، إزاء الخلاف بشأن الحضور الليبي ونزع العلم الليبي من قبل عناصر محسوبة على حركة "أمل" على خلفية قضية اختفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا (عام 1978)، ولاحقاً اعتذار ليبيا عن الحضور، والخلاف اللبناني – اللبناني بشأن هذه القضية، التي أظهرت مجدداً وجود موقفين، وسياستين، وعدم التزام بقرارات الدولة اللبنانية، اذ يمكن لأي فصيل فرض ما يريد بالقوة.
وأكدت مصادر "العربي الجديد" أن "ما حصل في الموضوع الليبي كان العامل الثاني بعد سطوة حزب الله، الذي ساهم في تقليص الحضور والتمثيل العربي، على الرغم من تصريحات الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط بعد زيارة قصر بعبدا ولقاء رئيس الجمهورية ميشال عون، وما أدلى به من إشادات تتعلق بحسن التنظيم والضيافة".

ووضعت المصادر تصريحات أبو الغيط وغيره من المسؤولين العرب المشاركين في "خانة الدبلوماسية، على صعيد الإشادة باحتضان لبنان للقمة، لكن ذلك لا يلغي أن لا أحد من القيادات أو الدول العربية يعوّل على ما ستخرج به هذه القمة، خصوصاً أن تعذّر حضور رؤساء وملوك وأمراء الدول العربية كان يمكن أن يكون مفهوماً أكثر، لو استعيض عنه برؤساء الحكومات مثلاً، لتأكيد جدية مشاركة هذه الدول، لكن هزالة المشاركة لم تقتصر على غياب الزعماء، بل شملت أيضاً غياب قيادات هذه الدول، التي فضلت المشاركة بوزير خارجية، أو حتى سفير، وهو ما يعد رسالة واضحة لجهة عدم اقتناع هذه الدول بالقمة أولاً، وثانياً بالدور اللبناني".
حتى إن المبررات التي صاغها البعض لفشل القمة قبل أن تبدأ، بدت عملياً محاولة لرفع المسؤولية من ضمن سياسة الإنكار التي يمارسها البعض لبنانياً، لتغطية الحال التي وصلت إليها البلاد، وحالة انعدام الثقة بالدولة، التي باتت على شفير الانهيار، باعتراف بيان لقاء القيادات الموارنة في بكركي الذي حمل عنوان "إنقاذ الوطن"، يوم الأربعاء الماضي.



ومن جملة المبررات هذه حديث البعض عن مساعٍ أميركية غير مباشرة أدت إلى الإحجام عن المشاركة في القمة، وهو ما يبدو سطحياً بحسب المصادر التي تقول إن "البعض في لبنان يحاول دوماً الهرب إلى الأمام والتنصل من المسؤولية، على الرغم من أنه يعلم تماماً حقيقة الوضع، وخصوصاً لجهة اعتبار الجهات الدولية والعربية لبنان دولة رهينة سياسياً، وأيضاً عسكرياً، بسبب حضور حزب الله. كما أن الموقف الأميركي كان واضحاً لجهة التمسك بالدولة اللبنانية والاستقرار، انطلاقاً من سياسة أميركية تقول بضرورة مواجهة النفوذ الإيراني وحزب الله حصراً، والتمسك بالدولة بوصفها المشروع المضاد لبنانياً لحزب الله".

وذكرت المصادر أنه "بغضّ النظر عن بعض الحجج والمبررات، فإن القمة بدأت بالانعقاد بمن حضر، وفق ما ردد رئيس الجمهورية اللبناني قبل ساعات، لكن انعقادها بهذا الشكل، وجّه ضربة قوية على مستويات عدة، لأنها ضربة للدولة اللبنانية أولاً، وللعهد ثانياً".

وينتظر البعض في لبنان ما قيل إنه مبادرة سيقدمها عون خلال القمة، أفادت المصادر أن "الترويج لها بدا وكأنه محاولة إنعاش للقمة، ولإمكانية تحقيقها شيئاً، يمكن استثماره على الأقل لبنانياً، من قبل بعض الأطراف، تحديداً التيار الوطني الحر، خصوصاً أن القمم عادة ما تكتسب نجاحاتها من المبادرات التي تقدم، مثل المبادرة العربية للسلام التي أُقرّت في قمة بيروت في عام 2002، وبات اسم هذه المبادرة مرتبطاً ببيروت وبالقمة".
وحتى الساعة بدا واضحاً أن مبادرة عون هذه تتضمن شقاً متعلقاً بإعادة إعمار سورية، إضافة إلى محاولة الضغط من قبل وزير الخارجية جبران باسيل لتضمين البيان الختامي توصيات تتعلق بـ"العودة الآمنة والكريمة للنازحين السوريين"، مع عدم ربط تلك العودة بالحل السياسي في سورية. وتصرّ الدولة اللبنانية على إطلاق صفة نازحين لا لاجئين على السوريين الذين فرواً إلى لبنان منذ بداية الثورة، وتدفع باتجاه عودتهم.

ورأت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد" أنه "في المبادرة المنوي تقديمها ما يؤشر إلى نوع من ابتعاد الدبلوماسية اللبنانية عن المنطق والعقلانية، وتكريساً لوجهة النظر الدولية والعربية التي تقول إن لبنان بات رهينة المحور الإيراني، خصوصاً أن إعادة إعمار سورية ملف أكبر من لبنان وحتى من العالم العربي مجتمعاً، وبات أحد الملفات على طاولة الكبار كروسيا والولايات المتحدة، التي تربط بين إعادة الإعمار وبين الحل السياسي في سورية. فضلاً عن أن ملف اللاجئين لا يقلّ ارتباطاً أيضاً من ملف الإعمار، مع التصعيد الأميركي ومع خلط الأوراق الذي يبدأ من قرار الانسحاب من شمال سورية، ولا ينتهي بالكباش الروسي ــ الأميركي".

وعليه يبدو مفهوماً محاولة البعض الضغط لدعوة سورية إلى القمة الذي فشل بسبب عدم نضوج الأجواء الدولية والعربية لهذه العودة، التي أيضاً باتت رهينة الصفقة الكبرى، والتوافق على حل سياسي شامل، لا يبدو أن أفقه جاهز حتى الساعة. كما لم تنفع محاولة رئاسة الجمهورية الالتفاف على عدم إعادة سورية إلى الجامعة العربية، عبر دعوة السفير السوري في لبنان علي عبد الكريم، من ضمن الدعوات التي وُجّهت إلى السفراء المعتمدين في لبنان، خصوصاً أن الأخير اعتذر، موجهاً صفعة ضمنية للدولة اللبنانية.



ذات صلة

الصورة
مجزرة عين يعقوب في عكار شمالي لبنان 12/11/2024 (عمر إبراهيم/رويترز)

سياسة

تهيمن الصدمة والغضب على السكان، في بلدة عين يعقوب الواقعة في أقصى شمال لبنان، فيما يواصل مسعفون البحث بأيديهم بين أنقاض مبنى كانت تقطنه عائلات نازحة.
الصورة
غمرت المياه سيارات الإطفاء ومركبات بسبب الأمطار الغزيرة/23 ديسمبر 2023(Getty)

مجتمع

تداول مغرّدون لبنانيون مساء اليوم مقاطع فيديو وصوراً تُظهر غرق شوارع العاصمة بيروت والنفق المؤدي إلى مطار رفيق الحريري الدولي، بسبب الأمطار الغزيرة.
الصورة
دبابة إسرائيلية على حدود لبنان من جهة الناقورة، 13 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

اشتدت حدة المواجهات البرية بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان مع دخول المعارك شهرها الأول من دون أن تتمكن إسرائيل من إحكام السيطرة.
الصورة
قصف إسرائيلي في محيط قلعة بعلبك الأثرية، 21 أكتوبر 2024 (نضال صلح/فرانس برس)

سياسة

انضمّت مدينة بعلبك إلى الأهداف الإسرائيلية الجديدة في العدوان الموسَّع على لبنان تنفيذاً لسياسة الأرض المحروقة ومخطّط التدمير والتهجير الممنهج.
المساهمون