فرنسواز فرجيس.. ضد الوصاية والنموذج الوحيد

07 مايو 2019
(فرنسواز فرجيس)
+ الخط -

في آخر إصداراتها؛ "حركة نسائية مضادة للاستعمار" (لافابريك، باريس 2019)، تقدّم الباحثة الفرنسية فرانسواز فرجيس تحليلاً نقدياً جذرياً يُخرج الحركات النسائية من مطلبية المساواة بين الرجل والمرأة ويضعها في بنية أكبر تتفاعل فيها الطبقة الاجتماعية والتوجّه الجنسي والعرق. وفي فرنسا التي يحارَب فيها الفكر المضاد للاستعمار بشكل ممنهج، يعتبر هذا الكتاب النوعي لبنة جديدة في معركة الحركات النسائية الآتية من "الجنوب الشامل".

يحدد الكتاب في فصله الأول مفهوم "الحركة النسائية المضادة للاستعمار" باعتبارها حركة تناضل في الآن نفسه ضد قمع التوجه الجنسي والعرق والطبقة الاجتماعية والأبوية والرأسمالية والاستعمار. وينخرط هذا المفهوم تاريخياً في كفاح نساء "الجنوب الشامل" اللواتي تعرضن بشكل ممنهج للتهميش لإكمال عملية تصفية الاستعمار الفكري.

تفكك "الحركة النسائية المضادة للاستعمار" فكرة الاستعمارية بتمييزها بين الاستعمار (حدث محدد في الزمان والمكان) والاستعمارية (حركة اجتماعية وذهنية شاملة مستمرة إلى يومنا هذا). كتبت فرجيس قائلة: "تدرس الحركات النسائية المضادة للاستعمار الطريقة التي تتخلل بها عقدة العنصرية والجنسانية والتمركز الإثني علاقات الهيمنة كلها، رغم اختفاء الأنظمة المرتبطة بها"، وهي بذلك تضع إصبعها على البعد الغائب في الحركات النسائية الغربية التي تغيّب في تحليلها العنصرية والاستعمار والعبودية. فالحركات النسائية الغربية ترفض أن ترى وجهها في مرآة التاريخ الاستعماري، وأن تعترف بامتيازاتها الطبقية والعرقية وبتأثير بنيات الاستعمار فيها، ففرنسا انتهجت في الجزائر سياسة تغريب ثقافي تحت غطاء تحرير الجزائريات من الحجاب وإدخالهن إلى الحداثة.

تستشهد المؤلفة بتحليل فرانز فانون لتفكير الاستعمار: "إذا أردنا أن نضرب المجتمع الجزائري في أعماقه، وفي قدرته على المقاومة، يجب بداية أن نستولي على النساء. يجب أن نذهب للبحث عنهن وراء الحجاب وفي البيوت حيث يخفيهن الرجل".

إن محاولات الجيش الاستعماري الفرنسي فرض السفور على النساء الجزائريات وتقديم المجاهدات كضحايا للجيش أو لإخوتهم المجاهدين، تهدف إلى تقديمهن كنساء بدون إرادة وبدون قدرة على اتخاذ قرارات مصيرية تخص نضال شعوبهن ضد الاستعمار.وما زالت هذه الأيديولوجيا الاستعمارية تغذي إلى يومنا الحركة النسائية الفرنسية بكل أطيافها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

في موضع آخر من كتابها، تضيء فرجيس حيثيات ظهور الحركة "النسائية الحضارية"، وهي حركة حليفة للرأسمالية وللاستعمار ظهرت في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، تدافع عن العلمانية وتحارب البرقع وتربط الأبوية بمجتمعات الجنوب.

في تشرين الثاني/نوفمبر 1989، ظهر مقال في الصحافة الفرنسية بعنوان "من أجل الدفاع عن العلمانية. من أجل كرامة النساء" بتوقيع جمعية "اختيار" التي ترأسها المناضلة النسوية المعروفة جيزيل حليمي وجمعيات أخرى.

هذا المقال يساند "البيان الموجه للأساتذة" الذي كتبته إليزابت باندانتر وريجيس دوبريه وألان فينكيلكروت وكاترين فينزل ونشر يومين من قبل موجّهاً إلى ليونيل جوسبان وزير التربية آنذاك، وجاء فيه: "إن التسامح مع الحجاب الإسلامي، لا يعني استقبال كائن حر (الفتاة موضوع النقاش)، بل هو فتح الباب على مصراعيه في وجه من قرروا من دون نقاش أن يجعلوها تستسلم. فعوض أن تمنحوا هذه الفتاة الصغيرة فضاء للحرية، تقولون لها ما معناه إنه لا فرق بين المدرسة وبيت أبيها".

إن هذه الحملة التي قادها مثقفون علمانيون بارزون و"مناضلات" من الحركة النسائية الفرنسية، هي بمثابة إعلان حرب على النساء ذوات الأصول المغاربية والأفريقية، ولا سيما المسلمات منهن. فالحجج التي بُنيت عليها هذه الحملة الشرسة ضد الحجاب الإسلامي تُظهر جلياً أن المنطق المستحكم هو استمرار عقلية الاستشراق والعلمانية المتطرفة والانغلاق على الهوية الفرنسية حيث "الرجل مساو للمرأة"، وهي البنية الذهنية التي تغذي "الحركة النسائية الحضارية".

تعارض هذه الحركات الإسلامَ لأنه يفرض الطاعة العمياء للرجل والسلطة المطلقة للأب والأخ ويستعبد النساء بالمساواة بين الرجل والمرأة التي تميز الثقافة الأوروبية والمدرسة العلمانية المحررة للفتيات.

وتعتبر هذه الحركات النسائية الحضارية أن لها مهمة خارج أوروبا الغربية تتمثل في تحرير نساء الجنوب المستعبدات، وتقدم نفسها مثل "جيش يحمي القارة من الأفكار الهدامة، ومن رجال ونساء يهددون مكتسباتها". كما تمارس الوصاية على نضالات النساء العاملات ذوات الأصول المغاربية والأفريقية التي لا أفق لهن إلا الاستغلال أو الذوبان في النموذج النسائي الفرنسي.

تظهر المفارقة في هذه الحملات عندما يتبنّى اليسار هذه الإيديولوجيا الإقصائية، حيث يعتقد قسم كبير من اليسار الفرنسي أن حرب الجزائر علامة فارقة وإيجابية في التاريخ الفرنسي، وأن تجاهل الجزائريين للديمقراطية الأوروبية هو الذي أفشل مسلسل تحرر المرأة في بلادهم.

ولا يحكم هذا اليسار على الجزائر فقط، بل يعمم حكمه على كل الشعوب التي تحررت من استعمار فرنسا. الأدهى أن هذه الحركات النسائية تتبنى هذا الطرح الاستعماري وتدافع عنه، مستغلة أحياناً شهادات مناضلات الجنوب، علاوة على التركيز على التأخر التاريخي لنساء الأهالي اللواتي يقاسين للخروج من ظلمات الإسلام الأبوي إلى نور الحداثة الغربية. غير أن هذه المقاربة لا تروم فقط فرض نموذج نسائي وحيد، بل تستهدف لجم كل الحركات النسائية المضادة للاستعمار التي ترفض هذه الوصاية وهذا الاستعمار الجديد.

إن حملات الثمانينيات ضد الحجاب الإسلامي صارت اليوم السياسة الرسمية للحكومات المتعاقبة، وصارت "الحروب الصليبية" الأوروبية ضد الإسلام شعار حقوق النساء. ويمكن للمرأة الفرنسية من أصول مغاربية وأفريقية أن تجد مكانا لها في هذه "الحركات النسائية الحضارية"، إذا لزمت الصمت وخضعت خضوعاً مطلقاً للمنطق الاستعماري النسوي الجديد.

من جهة أخرى، تستعمل هذه الحركات أيضاً استراتيجية التهدئة التي كان يستعملها الاستعمار الفرنسي في الماضي، إذ تلجأ إلى الرقابة والقمع، وتشوش على أهداف النضال الحقيقية، بتقديم الصراع المجتمعي كصراع بين الخير والشر، الشمال والجنوب.

تقول فرجيس: "أعادت الحركات النسائية الحضارية كتابة تاريخ الكفاح ضد الاستعمار، للتقليل من مساهمة نساء الجنوب في معارك محاربة الاستعمار والإمبريالية. فهذا السرد إما يهمّشهن أو يركز على "خيانة" الحركات التحررية للنساء بإعادتهن إلى البيت".

يصيب العمى هذه الحركات أيضاً عندما يتعلق الأمر باستغلال النظام الرأسمالي للنساء من أصول مغاربية أو أفريقية في فرنسا، فتحرّر النساء البيض ونضالهن يُغفل العوامل الاجتماعية والعرقية والاقتصادية في تحليل وضعية النساء المستعبدات، لذلك فأغلب عاملات النظافة اليوم في فرنسا من أصول أجنبية، وهن فئة تتعرض أجسادها للإنهاك الممنهج.

تقول المؤلفة: "لا يمكن التمييز بين إنهاك الأجساد (ويهم أيضاً الرجال، لكن أشدد هنا على إضفاء الطابع النسوي على أعمال النظافة في العالم) واقتصاد يفرق الأجساد بين من لهم الحق في الصحة والراحة ومن لا حق لهم فيهما. إن ملايين الأطنان من النفايات التي ينتجها العالم تنظفها طبقة جديدة من العاملات من أصول أجنبية في الغالب.

وفي فرنسا، تغمض "الحركات النسائية الحضارية" أعينها عما تتعرّض له نساء مثلهن. غير أن الحركات النسائية المضادة للاستعمار بدأت تسلط الضوء على الزوايا العمياء التي تخفيها الحركات النسائية الرسمية وتعمل جاهدة على إسماع صوت الهوامش الصامتة. وهذا الأمر ليس سهلاً في بلد ما زال ماضيها الإمبريالي يمنعها من تصفية استعمار تاريخها الرجالي والنسائي".

تخلُص فرنسواز فرجيس في هذا الكتاب إلى أن قراءة تاريخ الحركات النسائية يتطلب نقداً مغايراً خارج النظرة الأحادية لـ"الحركات النسائية الحضارية" البيضاء التي تؤمن بأن النساء لا ماضي لهن، وبأن نساء الجنوب تابعات لا خصوصية لهن. فالحركات النسائية المضادة للاستعمار ما زالت معركتها طويلة، سواء في فرنسا أو في بلدان الجنوب (توجد فيها حركات نسائية مستلبة وخاضعة تماماً للحركات النسائية الحضارية، لا سيما في المغرب العربي)، لأن الاستعمار ليس فقط ماضياً عسكرياً، بل استعمار فكري ومعرفي ونفسي ما زالت تعاني منه نخب الجنوب، رجالاً ونساء، إلى يومنا هذا.

يُذكر أن فرنسواز فرجيس وُلدت سنة 1952 لأسرة شيوعية ناضلت ضد الاستعمار الفرنسي في جزيرة لاريونون. انشغلت كتاباتها بتاريخ العبودية الاستعمارية إضافة إلى مؤلفات حول حقوق النساء والأجانب في فرنسا. هي اليوم رئيسة جمعية "لنحرر الفنون من الاستعمار". من أبرز مؤلفاتها: "الإنسان المفترس" (2011)، و"بطن النساء.. الرأسمالية، العرقية، الحركات النسائية" (2017).

المساهمون