فرنسا تصنع سينما ومجلّات

25 ابريل 2019
عدد المجلات أبصر النور في فرنسا ثم اختفى (Getty)
+ الخط -
في بيروت، أواخر ثمانينيات القرن الـ20، اكتشفتُ الصحافة السينمائية الفرنسية. أتذكّر، كما لو حدث في الأمس، العدد الأول من "دفاتر السينما"، الذي اشتريته من مكتبة قرب مكان إقامتي، ولم يكن عمري يتعدّى آنذاك 14 عامًا. كان عددًا خاصًا برحيل المخرج الأميركي جون كاسافيتيس (1989)، يتضمّن شهادة لمارتن سكورسيزي، روى فيها تأثّره بصاحب "وجوه". طوال العقود التالية، ولغاية اليوم، بقيت هذه المجلة الفرنسية، ومثيلاتها، مرجعية أساسية لفهم السينما، ولتلبية حاجتنا كقرّاء "سينيفيليين" يريدون الغوص في أعماق الفن السابع. 
إلى "دفاتر السينما" (1951)، و"بوزيتيف" (1952)، المعروفتين برصانتهما وتاريخهما الممتد زمنيًا، كانت الصحافة السينمائية الفرنسية غنية بمجلات خفيفة عديدة، في مقدّمتها "بروميير" (1976)، و"استديو"، التي وُلدت من رحم "بروميير" عام 1987، وكانت تفرد على صفحاتها مقالات غنية بالصُوَر الملوّنة والكبيرة التي تبعث على الحلم، كما لو أنك تشاهد فيلمًا هوليووديًا. اما صدورها، فنتيجة حاجة معينة: إرضاء قرّاء يبحثون عن مادة غنية، ولا يعجبهم بالضرورة الخط التحريري الذي تمثله "دفاتر السينما". العلّة الوحيدة كامنةٌ في انحياز المجلة كثيرًا إلى الممثّلين، سواء على غلافها أو بين دفّتيها، وذلك على حساب المخرج، الذي كان "إله" المجلات الرصينة في فرنسا.

مع بروز تحدّيات جديدة في عالم الإعلام الرقمي، لم تصمد المجلة، فنشرت عددها الأخير أواخر العام الماضي، بعد انخفاض مبيعاتها من 200 ألف نسخة، عند صدورها عام 1987، إلى 80 ألفًا فقط في الأعوام الأخيرة، إثر دمجها بمطبوعة أخرى. أما "بروميير"، فغيّرت جلدها عشرات المرات لمواكبة التطوّرات، وانتقلت من مالك إلى آخر، إلّا أنها لم تفلح في منافسة المواقع الإلكترونية المنتشرة مجانًا. تراجعت مبيعاتها من 135 ألف نسخة عام 2010 إلى 62 ألفًا فقط عام 2016.

عمومًا، لم يكن تأثير المجلات السينمائية "الخفيفة" فينا أقلّ من تأثير المجلات التحليلية "الصعبة"، خصوصًا أنّ الأفلام، في تلك الفترة، لم تكن متوافرة، وكنا نبحث عنها في محلات تأجير الفيديو بلا جدوى، فلم يكن أمامنا سوى أنّ نغمض أعيننا ونتخيّلها، حافظين عن ظهر قلب حكايات بعضها من وجهة نظر الناقد. في أي حال، لم تكن هذه صلتنا الوحيدة بالنقد الفرنسي في العالم العربي، فهناك عدد غير قليل من المطبوعات السينمائية المتخصصة صدرت في دول عربية عديدة استعمرتها فرنسا او انتدبتها. منذ ستينيات القرن الـ20، صدرت في بيروت مجلة "سيني دوريان"، التي تناولت السينما بأسلوب احتفائي سهل، يصل إلى طبقات عديدة من القرّاء والمهتمّين. ولا يمكن نسيان الفضل الكبير لمؤسّس النقد السينمائي في لبنان، الفرنسي جان بيار غو بلتان، الذي صنع "الأيام المجيدة" للصحافة الفرنكوفونية، وتربّت على مقالاته في "لوريان لو جور" أجيال عديدة.

عدد لا يُحصى من مجلات السينما أبصر النور في فرنسا، ثم اختفى بعد عقد أو عقدين. هكذا كانت الحال دائمًا: صعودٌ ثم هبوطٌ، فاختفاء كلّي. معظمها شهرية، اختلفت شكلاً ومضمونًا، وتميّزت حجمًا وانتشارًا وطموحًا. إلا أنّها صنعت جزءًا مهمًّا من الحركة النقدية في بلدٍ يعتز بهذا التقليد العريق منذ بزوغ فجر السينما. مجلة "سينما" (1954 ـ 1999) مثلاً، اتّخذت شكل كتاب من القطع الصغير، وتضمّنت عددًا قليلاً من الصُوَر. جمعت ثلّةً من النقّاد الراديكاليين، معظمهم من اليسار المنفتح على ما يُسمّى "سينما الجنوب"، أو العالم الثالث. أقلامٌ لا ترحم ولا تهادن. جيل جاكوب نشر فيها.

إلا أنّ المرتبة الأولى في قائمة المجلات السينمائية الفرنسية تحتلّها "دفاتر السينما" و"بوزيتيف". ليس لأنهما الأكثر مهنية وثراءً وإبداعًا وشهرةً على الصعيد الدولي، بل لقدرتهما على الاستمرار طوال هذه العقود كلّها، لكن ليس من دون صعوبات وعقبات جمّة. لم تتكرّس هاتان المجلتان عند القراء فقط، بل عند السينمائيين كذلك. خلف الواجهة الرسمية، هناك أكثر من نصف قرن معارك فكرية وإيديولوجية وثقافية شرسة، صنعت لهما تاريخًا مشتركًا. الاختلافات بشكل عام تأتي من طبيعة النظرة إلى السينما، لكن ربما تكون أيضًا اختلافات سياسية وثقافية وفنية. لكل مجلة من المجلتين معسكرها، وسينمائيون اتّخذت جانبهم. "بوزيتيف"، التي أسّسها برنار شاردير، تأثّرت بالحركة السوريالية التي ردمت الهوّة بين الفنّ الراقي والفنّ الساذج. ولدت في مدينة ليون، فتبلورت خارج الـ"سنوبية" الباريسية، التي سيطرت ولا تزال تسيطر على "الدفاتر". سلطت "بوزيتيف" الضوء على أسماء سينمائية أسيء تقديرها، أو سقطت من الذاكرة. هذا تقليد راسخ في المجلة. كان الناس ينظرون إليها بشيء من الغرابة، لأنهم لا يستطيعون تصنيفها. بدءًا من العدد 10 أو 12، تغلغلت السوريالية في شرايينها، فانضمّ إليها أشخاص مثل أدو كيرو وروبير بينايون، ولاحقًا جيرار لوغران، ثم جميع المنخرطين في الحركة السوريالية. ثم تولّاها نقّاد، كميشال سيمان (تلميذ جيل دولوز)، وبرتران تافرنييه وجان بيار كورسودون، اضطلعوا بمهمّات قام بها السورياليون في مجال الفن التشكيلي: كانوا يحبّون "فانتوماس" والرواية الغوطية الإنكليزية وقصص الرعب. كثر منهم "نحتوا" بصمت في كواليس هذه المجلة منذ سنوات، ولهم أيضًا نشاطات أخرى في موازاة عملهم كنقّاد، فعملهم فيها تطوّعي، ما ضمن لها استمرارية لم تحظَ بها المجلات الأخرى.

أما "دفاتر السينما"، التي أسّسها جاك دونيول فالكروز، فهي أسطورة بحدّ ذاتها. خرج من عباءتها عدد من السينمائيين الكبار، كفرنسوا تروفو وكلود شابرول وجان ـ لوك غودار وإيريك رومير. سيرتها مرتبطة جدًا بـ"الموجة الجديدة"، التي ظهرت نهاية الخمسينيات الفائتة، ومرّت مذذاك في مراحل عديدة أشهرها الماوية، وذاع صيتها بما يُعرف بـ"سياسة المؤلف"، وهي سياسة مُثيرة للجدل، تعتبر المخرج مؤلّف العمل والمسؤول الأول والأخير عنه، وإن لم يكن صاحب السيناريو. هذا النهج أدّى أحيانًا إلى الدفاع عن أفلامٍ لم تبقَ في الذاكرة، لكنه تعبيرٌ عن حماسة لحظية. في المقابل، ردّت أقلام "الدفاتر" الاعتبار إلى مجموعة كاملة من السينمائيين الأميركيين، الذين لم ينالوا ما يستحقّونه من تقدير في بلدهم. في مقدّمة هؤلاء: ألفرد هيتشكوك وهاورد هوكس.

في الفترة الذهبية للمجلات، كانت للناقد هيبة ومكانة. كان يُعدّ مرجعًا، وكلامه مسموع. يذهب إلى مهرجانات "كانّ" وبرلين وفينيسيا (البندقية)، ويعود حاملاً معه حكايات، شأنه شأن أي مغامر. يأخذ القرّاء رأيه في الاعتبار. صفحات السينما في الصحف تقليدٌ فرنسي أساسًا، والقائمون عليها يلتزمون الكتابة أولاً وأخيرًا عن أفلام معروضة في الصالات، بشكلٍ منهجي لا خروج عنه البتة، فباتت مرجعية للقارئ كي يُقرّر أيّ فيلم سيُشاهد. أما "نفوذ" النقّاد وتأثيرهم في الإيرادات، فلم يكونا معدومين، كما هي الحال اليوم. مقالة غير إيجابية عن فيلم كان يُمكنها أن تكون "عقبة" أمام الفيلم للوصول إلى "بعض" الجمهور. مذذاك، تغيّرت الحكاية، وضاق صدر الصحف بالسينما.

النقد عبر شبكة "إنترنت" غيّر المعادلة كثيرًا. تكرّس أكثر فأكثر ما كان يقوله فرنسوا تروفو: "لكلٍّ مهنتان: المهنة التي يزاولها في الحياة، والنقد السينمائي". اهتزّت الصحافة السينمائية في عقر دارها، فرنسا. كثرت المواقع التي تتحدّث عن السينما. ثمّ هناك جيل كامل يظنّ اليوم أن السينما بدأت مع ستيفن سبيلبرغ، ولا يُبدي أي اهتمام بالحقبة الصامتة مثلاً. "إنترنت" مكان مثالي للتبادل العابر بلا تعمّق. في ضوء هذا، ينبغي التمييز بين الناقد والسينيفيلي. فالسينيفيلي هو مَن يشعر بشغف بالسينما، يُشاهد الأفلام ويقرأ الكتب والمجلات، لكنه لا يرغب بالضرورة أن يدوّن تحليلاته.

اليوم، يعتبر نقّاد فرنسيون أنّ مهنتهم إلى زوال في أسوأ الحالات، أو إلى "انكماشٍ" في أفضلها. مساحة الحديث عن الأفلام تقلّ عامًا بعد عام، وصولاً إلى استغناء صحفٍ كثيرة عن نقّاد كانوا أسماء بارزة في ما مضى. يروي ناقد الـ"بوزيتيف" أوبير نيوغريه أنّه كانت لجان لو برفيد، في الستينيات الفائتة، في "لو نوفيل أوبسرفاتور"، صفحة أسبوعية للتحدث عن فيلم شاهده في مهرجان، أو أي شيء يريد التحدّث عنه. تلك الحقبة ولّت، حتى في بلد كفرنسا، معقل النقد. كان برفيد يتناول فيلمًا أفريقيًا مثلاً، يُعرَض في صالتين فقط. اليوم، يحصل الناقد على صفحة في جريدة معروفة، وتجده يوظّفها لتناول فيلم تجاري واسع الانتشار، حتى لو كان سيتناوله سلبيًا.
المساهمون