فرنسا: الأسئلة الحقيقية ليست إلا في بداياتها

14 يناير 2015
انتقادات للاعلام الفرنسي بسبب ترويجه لـ "أيقونات الرعب" (الأناضول)
+ الخط -
تستفيق فرنسا، بعد التظاهرات والمسيرات التي شهدتها أنحاء البلاد، ووصل عدد المشاركين فيها إلى 3,7 ملايين شخص، في مشهد عكس شبه اجماع وطني على "رفض البربريّة"، وفق شعارات رفعها المشاركون، على يوم جديد، تعود فيه الصراعات والحسابات السياسيّة إلى سابق عهدها.

وبعد اظهار زعماء اليمين التقليدي بعض ساعات من الوحدة لمواجهة "الخطر الجديد" الذي تواجهه فرنسا، يعود كثيرون للتساؤل عن مستقبل هذه الوحدة. ولم يتأخر البعض في التشكيك بسياسة الرئيس فرنسوا هولاند لما بعد هذه الصدمة، حتى وإن كانت قراءتهم لما بعد التظاهرة، تختلف من مسؤول إلى آخر، وبين مُطالب بضرورة اتباع الخطة الصارمة ذاتها التي اتبعتها واشنطن، بعد تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول، وبين مُشكّك في فعاليتها ومُحذّر من تكرار تجربة غوانتانامو التي مسّت الحريات الفرديّة في الصميم.

وعلى الرغم من أنّ التظاهرة الضخمة كان هدفها "الدفاع عن الحرية"، لكنّ اليمين الفرنسي المهووس بالمسائل والحلول الأمنيّة، لن يترك اليمين المتطرف يحتكر هذا الموضوع. ولم يتردّد أقطاب الجناح الأكثر يمينيّة في حزب الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، في المطالبة بالتشدّد، وأحياناً بمعاودة تحديد مفهوم "الهوية الوطنية"، التي ابتكرها ساركوزي سابقاً، وتسبّبت في كثير من الاحتقان في فرنسا.

وتميز المرشح المعتدل السابق لرئاسة حزب "التجمّع من أجل حركة شعبيّة"، برونو ليمير، بمواقف تتجاوز الهموم الحزبيّة اليمينيّة، إذ يطالب بقراءة موضوعيّة وشاملة لما يحدث وللظروف المحيطة. ويقول في هذا الصدد: "مَنَحَنَا الفرنسيون درساً في الوحدة وفي الشجاعة. ويجب على نقاشاتنا السياسية أن تكون في مستوى هذه الروحيّة الوطنيّة". ويضيف: "الأسئلة التي يتوجّب علينا أن نطرحها، ليست فقط أسئلة الأمن. الألم عميق جداً، وبالتالي يجب مراجعة مجموع نظامنا التعليمي والاقتصادي والسياسي. ومراجعة قِيَمِنَا، أيضاً".

وفي الجانب الفكري الفلسفي، تميّزت الفيلسوفة الفرنسية ماري ــ جوزيه موندزين، من الدقائق الأولى، بسباحتها عكس التيار. وعلى الرغم من الذهول والحزن والحداد على الضحايا، الذين كانت تعرف بعضهم، لكنّها تستحضر تفجيرات 11 سبتمبر/ايلول 2001، وحالة الإجماع التي سادت بعيد التفجيرات، لتقول: "إنّ ما حدث اليوم فكّرنا فيه قبل شهور وسنوات، بسبب ما حدث في العراق وليبيا وسورية أو في مالي". وتتابع: "الشرق الأوسط والإسلامويّة واندماج أو لا اندماج أطراف من الجالية الإسلاميّة في فرنسا، أسئلة لن تتوقف عن المثول أمام عينيَّ. والكثير من الفرنسيين يرون ما أراه".

وتستعيد موندزين افتتاحيّة صحيفة "لوموند" الشهيرة، بعد تفجيرات 11 سبتمبر، عندما عنونت "كلنا أميركيون"، وكيف ردت عليها بمقال جريء بعنوان: "لا أُشعر أنني أميركيةً". وتقول إنّها حين رأت انبثاق جملة "أنا شارلي"، لاحظت فيها شكلا ثابتاً وجامداً في قاموس الأيام التي تَعقُب الكوارث. وإن كانت ترى فيها نوعاً من التماهي والتعاطف، لكنّها ترى فيها أيضاً عدم إنتاجيّة. وتوضح في هذا الصدد، أن عبارة "متحدون جميعاً في مواجهة الرعب"، تكشف عن لاتمييز، أي عن اتحاد على كل المستويات وعلى مستوى كل الطبقات الاجتماعية وفي كل ركن من العالَم. ولكن هذا الأمر غيرُ صحيح. إنّها شموليّة مغلوطة تعمل مثل شعار اتصال شمولي..." على حد تعبيرها.

وتفنّد فكرة الاتحاد أو الوحدة بقولها: "لسنا متساوين أمام هذا الحدث. البعض سيستخلص منه منافع سياسيّة، وآخرون سيعيشونه بطريقة بدائيّة وعاطفيّة، حاقدة، أحياناً، وأخيراً توجد أقلية، أتمنّى أن تصبح أغلبيّة، تنوي التفكير في الأسباب الحقيقيّة والعميقة لهذه الوضعيّة".

وفي حين انشغل المتتبعون للحدث في إظهار الفرح والابتهاج وكثير من الارتياح بقتل المسلحين، كما فعل الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، لكنّ الفيلسوفة الفرنسيّة تنتقد موقف بعض القنوات التلفزيونيّة الفرنسيّة ومنها تلفزيون "بي إف إم" الذي واصل، حتى بعد انتهاء المطاردات وقتل المسلحين، من الساعة الخامسة والنصف مساء حتى منتصف الليل، إظهار صُوَر الإرهابيين الثلاثة، الذين تمّ التعرف عليهم وتسميتهم وقتلهم، بتعليق "أسود وشخصان بملامح مغاربيّة، أحدهما بلحية خفيفة".
وتتساءل الباحثة الفرنسيّة بقلق: "لماذا؟ لماذا، ما دام أنهم قُتِلوا، إلا إذا كان السبب هو أنّ وسائل الإعلام منهمكةٌ في صنع صُوَر أيقونية، أيقونات الرعب. (...) لقد حوَّل التلفزيون وجوهاً إلى سحنات وملامح تستدعي المراقبة". ويبدو أن الأسئلة الحقيقية في فرنسا ليست إلا في بداياتها.

المساهمون