بالرغم من أن الانتخابات الأوروبية لا تزال بعيدةً، إذ ستجري في 26 مايو/أيار 2019، إلا أن شيئاً ما يشبه الحملات الانتخابية قد بدأ في فرنسا، ما يدفع الأحزاب والحركات السياسية للغوص أكثر فأكثر فيها، وهو أيضاً ما تتابعه استطلاعات الرأي بشغف.
ويحتل حزبا "الجمهورية إلى الأمام" (حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون) و"التجمع الوطني" (اليمين المتطرف) صدارة هذه الاستطلاعات، في حين أن حزب "الجمهوريون"، الذي يملك أكبر كتلةٍ معارضة في مجلس النواب الفرنسي، وأغلبية مريحة في مجلس الشيوخ، لا يزال على مساحة بعيدة من حزبي الصدارة. أمّا أحزاب وحركات اليسار، فتعاني من صعوبة كبيرة لدخول سباق المنافسة، إذ تظل نسبها ضعيفة جداً، وقد تهدد بنتائج كارثية غير مسبوقة.
ولا شك أن معظم المراقبين الذي راهنوا على ارتباط وثيق بين انخفاض شعبية إيمانويل ماكرون والنتائج التي ستحصدها حركته السياسية في انتخابات مايو/أيار المقبل، متحدثين عن "صفعة" ستلقاها الأغلبية الرئاسية، بسبب أزمة "السترات الصفراء"، بدأوا يراجعون مواقفهم، فليس فقط حزب الرئيس هو الذي يتصدر أو يتقاسم الصدارة مع حزب مارين لوبان، بل إن شعبية الرئيس الفرنسي ورئيس حكومته تشهد نوعاً من التحسن الطفيف، ولكن المستمر منذ أسابيع، فهما يحظيان الآن بتأييد 26 و28 في المائة من الفرنسيين.
وصحيحٌ أن ماكرون لم يستَعد بعد النسبة التي صوتت له في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، ولكنّ يبدو، وبفضل مشاركته الفعلية في "الحوار الوطني الكبير" الذي استهوى نسبة مهمة من الفرنسيين، أنه استعاد قوته السجالية والخطابية، بل أيضاً ثقته في تحقيق نصر انتخابي في "الأوروبيات"، وهو ما سيمنحه هالة أوروبية خفتت منذ اندلاع أزمة "السترات"، التي دفعته للبقاء رهين الإليزيه ورهين صمتٍ طال لبعض الوقت.
وبالرغم من أن الانتخابات الأوروبية لا تزال بعيدة، وقد تحدث حتى موعدها الكثير من المفاجآت، كما جرى في رئاسيات فرنسا 2017، حين خسر مرشح حزب "الجمهوريون" فرانسوا فيون، رغم أن الاستطلاعات كانت تمنحه مفاتيح الإليزيه من دون منافس، إلا أن الأغلبية الرئاسية يمكنها أن تتنفس جيداً، بعدما كانت مستهدفةً، إلى جانب ماكرون، من الحراك الاحتجاجي، كما أن حزب ماري لوبان يستطيع أن يدافع عن موقعه باعتباره أكبر حزب سياسي فرنسي، بفضل توفره على قاعدة انتخابية وفية، في حدود 25 في المائة.
وقد كشف آخر استطلاع للرأي أجراه "معهد إلاب"، عن نية 22 في المائة من الذين شملهم الاستطلاع التصويت للأغلبية الرئاسية. وعبرت النسبة ذاتها، أيضاً، عن رغبتها في التصويت لحزب "التجمع الوطني"، الذي تترأسه مارين لوبان. وحصل حزب "الجمهوريون" على نسبة 13 في المائة، والحزب الإيكولوجي على نسبة 10 في المائة، و"فرنسا غير الخاضعة" على 8 في المائة، و"انهضي، فرنسا" اليميني على 5.5 في المائة، والحزب الاشتراكي على 5 في المائة. ونجد في المؤخرة قائمة حركة "أجيال"، التي يتزعمها الاشتراكي السابق بونوا هامون، بـ3 في المائة، ثم الحزب الشيوعي بنسبة 2.5 في المائة، وأخيراً حزب "اتحاد الديمقراطيين المستقلين" الوسطي، بنسبة 2 في المائة.
ويظهر وفق هذا الاستطلاع أن اليسار الفرنسي لن يكون مؤثراً في الانتخابات الأوروبية، وهي نتيجة طبيعية لفشله في الدخول في قائمة موحدة، خاصة بين الاشتراكيين والإيكولوجيين، بسبب اقتناع زعيم الحزب الإيكولوجي بقدرته على إحداث اختراق كبير من دون حاجة لحزب تمزقه الصراعات ويتحدث البعض عن قرب احتضاره، إن لم يتجدد.
ويبقى اللغز هو عدم استفادة حركة "فرنسا غير الخاضعة" من مشاركتها الفعالة في حراك "السترات الصفراء"، ومن مغازلة زعيمها جان لوك ميلانشون لبعض قياداتها، وهو منطقٌ يرفضه بعض ممثليها بالقول إن استطلاعات الرأي لا تصدُقُ دائماً، وإن الحملة لم تبدأ بعد، وإن الحزب جاهز لها.
أما الحزب الشيوعي الفرنسي، فهو مهدد بالاختفاء من المشهد، في البرلمان الأوروبي على الأقل، الذي يشترط دخوله الحصول على نسبة 5 في المائة من الأصوات على الأقل، في حين أن الحصول على تعويضات الحملة الانتخابية المُكلِفة يستوجب الحصول على نسبة 3 في المائة، وهي نسبة لا تزال بعيدة المنال، في ظل تردي أوضاع الحزب المالية وإفلاس صحيفته، "لومانيتيه".
وفي علاقة بالانتخابات الأوروبية المقبلة، يخشى البعض في فرنسا تدخلاً روسياً، وهو ما عبّر عنه نيكولا ليرنر، رئيس الإدارة العامة للأمن الداخلي، في لقاء مع صحيفة "لوباريزيان"، قائلاً إن "البعض لهم مصلحة في وضع عراقيل أمام الحكومة والرئيس، مستغلين حراك السترات الصفراء، عبر الزيادة في ضخّ أخبار كاذبة".
وبالإضافة إلى الخطر الروسي، أشارت الصحيفة إلى "نشاط تيارات قريبة من دونالد ترامب متحالفة مع المشككين في الاتحاد الأوروبي، من سالفيني إلى لوبان، مروراً بالإنكليزي فاراج والبلجيكي فلامس بلوك، والذين يقومون بتفخيخ النقاش".
ورأت الصحيفة أن الحزب الرئاسي وضع خلية خاصة من أجل مكافحة هذه الهجمات أثناء الحملة الانتخابية الأوروبية. كما تحدثت عن قرب تكليف مستشار ماكرون المستقيل، إسماعيل إيميليان، بمهمة لدى كل العواصم الأوروبية، لتشجيع انبثاق تيار "تقدمي" أوروبي، التيار السياسي العزيز على قلب الرئيس الفرنسي، والذي يريد من خلاله مواجهةَ التيار المحافظ والشعبوي، الذي يهدد الاتحاد الأوروبي.