فراس فياض: "آخر الرجال في حلب" بطولة في وجه الموت

18 مارس 2018
المخرج السوري فراس فياض (Getty)
+ الخط -
تَمَكن المخرج السوري، فراس فياض، من التقاط لحظات الأمل والقوة التي تَمسك بها من بقي حياً في حلب، ضمن فيلمه الوثائقي "آخر الرجال في حلب" إنتاج 2017. يقول فراس لـ"العربي الجديد": "ذهبتُ بحثاً عن سرِّهم في مواجهة الصراع الوجودي في وجه الموت، عن القوة الخفية التي تُخلَق لديهم عندما تنهار المدينة برمتها أمامهم، فيهرعون لانتشال الجثث من تحت الأنقاض، بحثاً عن الأحياء، بحثاً عن الأمل".

بعيداً عن الشعارات الطنانة والوطنيات، يبحث فراس فياض في رحلته الطويلة التي استمرت عدة سنوات، عن قيم النبالة التي يتمسك بها هؤلاء الرجال في مواجهة الحرب الأكثر مأساوية منذ الحرب العالمية الثانية، يحكي فراس عن طبيعة هؤلاء المنقذين الذين سُموا فيما بعد "الخوذ البيضاء"، إلا أنهم في البداية لم يكُن لهم اسم أو دائرة تجمعهم سوى أنهم أبناء الشارع أو المنطقة الذين يتحلون بالشهامة الاستثنائية. ويُلقّبون عادة بـ"قبضايات الحارة"، وهم مختلفون في توصيفهم عمّا يُسوَق لهم في بعض المسلسلات السورية التي تتناول مفهوم "القبضاي" بطريقة رجعية. ولفهم معنى الكلمة الحقيقية في الواقع السوري، يجب أن يتعرف المرء على هؤلاء الرجال الذين يُفضِلون حياة الآخرين فوق حياتهم، ويتركون خلفهم كل ما يملكون، لِيَهُبوا لإنقاذ البقية الذين تراكمت فوقهم أنقاض الأبنية المُدمرة. وبجهود خارقة، وإمكانات متواضعة للغاية يتمكنون كل يوم من إنقاذ البعض، وانتشال الكثيرين ممن قَضوا تحت الدمار.

سُموا فيما بعد بـ"الخوذ البيضاء"، عندما بدؤوا يلبسونها للحماية، ولاحقاً، تم ضمهم لما سموه الدفاع المدني، فباتت لهم مراكز متفرقة في أنحاء المدينة، ولكن يتم استهدافها بشكل مُمنهج من قبل النظام السوري وحلفائه.

يقول فراس فياض: "أردتُ أن أقدم للعالم صورة إيجابية لا يعرفونها عن هذه المجتمعات. وأردت أن يَرَوا مثالاً حيّاً عن أسمى حالات الإنسانية التي يمكن أن تكون موجودة في العالم بغض النظر عن أي انتماء عرقي أو ديني أو سياسي".

يرافق فراس فياض وفريقه من المصورين، الشخصية الرئيسية في الفيلم الوثائقي "خالد" وهو الرجل الذي يَضج بالطفولة التي لم تكبر، فيغتنم الفرصة ليلعب بالكرة أو ليصطحب أطفال الحي إلى الحديقة في لحظات مسروقة من زمن آمن، ليلعب هو أيضاً.



ويتحدى خالد كل المجموعات المتطرفة التي سنّت شتى القوانين ومنها منع التدخين، عندما يقف على سطح أحد الأبنية في إطلالة لا تشبه أية إطلالة أخرى، ففيها حطام حلب، ويتحدى كل ما حوله فينفث دخان سيكارته، وينظر إلى السماء نظرة وجودية صارخة، فهو لايزال هناك حياً رافضاً لأي شكل من أشكال الموت والعبودية.

توثق مشاهد الفيلم أكثر اللحظات حميميةً وصدقاً في حياة خالد وأصدقائه الذين يجمعهم هَمٌ واحد وهدف مشترك، وتتشابك علاقاتهم في صور استثنائية من الأبوة والأخوة، ويتمسكون بعضهم ببعض ويجدون في دوائرهم الصغيرة معنىً حقيقياً للسعادة، بعد أن تخلى عنهم كل العالم، وتركهم وحدهم يواجهون المأساة. فيزرعون بدورهم الأمل حولهم ويُمثلون الأبطال الحقيقيين الذين يعتمد عليهم الناس هناك للبقاء أحياء. ولهذا لم يبحث فراس فياض عن مصورين سينمائيين ليرسموا صوراً فنية، بل استعان بمصورين صحافيين لنقل الحياة كما هي هناك، بقسوتها وحساسيتها لتكون هي الفن والوثيقة الصادقة. ويصور أحد المشاهد "محمود" وهو واحد من المنقذين، عندما يقوم بزيارة لمنزل عائلة قام بانتشال طفلها من تحت الأنقاض، وتقترب الكاميرا بعيداً عن كل ما يدور في الغرفة لتتبع الطفل الصغير الذي يركض نحو منقذه فيختبئ تحت ذراعه في لحظة أمان أزلية. محمود بالنسبة إليه يُمثل كل القِوى الخارقة والأبطال الخرافيين، فقد انتشله من تحت الأنقاض بعد أن واجه الموت وفقد الأمل، يهمس الطفل في أذن محمود: "عمو كيف طالعتوني؟"، ويتمسك الطفل بمحمود قبل مغادرته، فهو يريده أن يبقى قليلاً، أو ربما دائماً.

يحاول خالد خلال الفترة العصيبة أن يستقي قوته من طفلتيه الصغيرتين اللتين تربطهما به علاقة متينة، وتستمران بتسجيل الرسائل الصوتية إليه عندما يغيب في مهمات الإنقاذ فينصت إلى أصواتهما وكلماتهما المُتعثرة في أحلك الظروف، فترتسم الابتسامة على ملامحه سريعاً. ويقرر فيما بعد أن يبني بحيرة صغيرة يربي فيها السمك، ويتعلق خالد بأسماكه التي تكبر شيئاً فشيئاً وتسبح دون توقف في حلقات لا نهائية، تشبه كثيراً الحلقة المفرغة بين الموت والحياة، بين الوجود والعدم، والتي يدور فيها رجال "الخوذ البيضاء"، الباحثون دوماً عن النبض الأخير في أنقاض المدينة، والذين لا يسعهم مغادرة المكان، فهناك فقط لا يمكن للحياة أن تستمر دونهم.

يقول فراس فياض: "سألتُ نفسي مطولاً، ما هو حلم خالد؟ حلمه أن يبقى هناك حتى بعد موته، أن يترك أثراً في المكان حتى لو دُمر المكان كلياً، أن يبقى شبحاً خفيفاً في قلب حلب وبين حاراتها يطارد السكان الجُدد، كسمكة تسبح في حوض صغير أبدي، فعلاقة هؤلاء الأشخاص ببيوتهم لا يمكن حذفها حتى وإن هُجِّروا أو قُتِلوا".

يستشهد خالد تحت الأنقاض مع نهاية الفيلم، ويخرج المشاهدون في حالة من الذهول بعد انتهاء العرض، ويعلق فراس فياض: "لا أحد يصدق أن خالدا قد استشهد، يسألني الجميع، هل ماتَ حقاً؟". تمكن فراس فياض من إيصال نبض خالد لكل من لامس جزءاً صغيراً من حياته عبر الشاشة، فيبقى حياً في روح كل من يراه، ومُلهِماً لحياة أفضل وطفولة لا بد أن تجد مكاناً لها حتى في ظل الحرب الطاحنة.
المساهمون