فتح القسطنطينية وسقوط الإمبراطورية؟

04 يونيو 2015
+ الخط -

أقامت تركيا في 29 مايو/أيار 2015، احتفالات رسمية وشعبية حاشدة في إسطنبول، شارك فيها الرئيس رجب طيب أردوغان، ورئيس الحكومة أحمد داود أوغلو، وسط الحشود الجماهيرية التي تجاوزت 1.8 مليون نسمة "بحق ربنا"، امتلأت بهم ميادين وساحات المدينة التي كانت هي نفسها محل الاحتفال بمناسبة مرور 562 عاماً على فتح القسطنطينية، ودخول الجيش العثماني، بقيادة السلطان محمد الثاني الذي أخذ لقب الفاتح إلى المدينة، بعد نجاحه في اقتحام حصونها بعد 53 يوماً من الحصار، وبعد معركة حامية الوطيس، قُتِل فيها آخر أباطرة الروم قسطنطين الحادي عشر. وقرر السلطان محمد الفاتح أن يتخذها عاصمة للدولة العثمانية، بعد أن غير اسمها إلى إسلامبول، والتي أصبحت إسطنبول. وبعد أن انتقلت الخلافة الإسلامية إلى الدولة العثمانية، بعد فتح القسطنطينية بحوالى 64 عاماً، وبالتحديد بعد انتصار السلطان سليم الأول على السلطنة المملوكية في مصر، وإخضاع مناطق نفوذها في الشام والحجاز، وخصوصاً مكة المكرمة والمدينة المنورة، لسلطة الدولة العثمانية، وبعد أن أمر السلطان سليم الأول بشنق السلطان طومان باي على باب زويلة في القاهرة، لرفضه الاستسلام له، تسلم مفاتيح الحرمين الشريفين، ثم اصط
حب معه إلى إسطنبول آخر الخلفاء العباسيين، محمد المتوكل على الله، والذي كان موجودا في رعاية مصر رمزا للخلافة، وفي إسطنبول، تنازل آخر الخلفاء العباسيين عن الخلافة إلى السلطان سليم الأول، لتصبح المدينة عاصمة دولة الخلافة أو الأستانة.

إذاً منذ 562 عاماً، فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية، لتسقط إلى الأبد دولة الروم، أو الإمبراطورية الرومانية الشرقية، أو البيزنطية، كما يحلو للأكاديميين تسميتها نسبة إلى الاسم الأصلي لمدينة القسطنطينية، وهو بيزنطة.

ولكن، ما الذي يدفعنا إلى استرجاع كل تلك الأحداث، ونحن بصدد الحديث عن احتفالية بحدث يعتز به الأتراك، والمسلمون عامة كثيراً، خصوصاً أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، قد بشر به قبل وقوعه بحوالى 800 عام، وهو فتح عاصمة الروم، وكانت قد وقعت عدة محاولات سابقة لم يكتب لها النجاح، في عهد الخلفاء معاوية وسليمان بن عبد الملك، وانتهت في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، وهي بالقطع ذكرى تستحق الاحتفاء بها؟

الحقيقة أن فتح القسطنطينية، وسقوط إمبراطورية الروم، لم يكن فقط انتصار قوة كبرى صاعدة، وأفول نجم قوة كبرى استمرت أكثر من ألف عام، لكنه كان إيذاناً بنهاية العصور الوسطى، وبداية ما اصطلحنا على تسميته عصر النهضة والعصور الحديثة، أي إشارة لبدء مرحلة تحول وتغيير شاملة، طاولت كل مناحي الحياة، وأيضاً فرضت قواعد جديدة لحركة القوى الدولية في صعودها وهبوطها، أهم ما يميزها أن البقاء أصبح للأكثر قدرة على المعرفة والتطور، والالتحاق بالثورة الصناعية ومتطلباتها، الأمر الذى لم تدركه جيداً، للأسف الشديد، القوى الإسلامية الصاعدة في وقتها، وهي الدولة العثمانية التي آلت إليها سدة الخلافة الإسلامية بعد 64 عاما من فتح القسطنطينية، كما أشرنا، ثم توسعت وامتدت شرقاً وغرباً، مستفيدة من قوة الدفع التي اكتسبتها كدولة تمثل الخلافة الإسلامية الجديدة، وبأدوات ذلك العصر التي لم تكن قد شهدت تطوراً فارقا بعد.

ولكن الغرب الذي أخذ بزمام المبادرة، وانتقل من عصر النهضة الذي قادته روما إلى عصر الثورة الصناعية الشاملة التي قادتها أوربا الغربية. وضع ذلك الغرب نصب عينيه هدفاً لا يحيد عنه، وهو إضعاف دولة الخلافة الإسلامية، وتفتيتها، لينتهي الأمر بإسقاطها، وهو ما تحقق، في نهاية الأمر، بعد صراع متعدد الجوانب، امتد نحو 500 عام، وكما شهدت القسطنطينية إعلان سقوط إمبراطورية الروم عام 1453 على يد محمد الفاتح، وقيام دولة الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1517 على يد سليم الأول، شهدت أيضا سقوط الإمبراطورية العثمانية على يد الحلفاء الغربيين، خلفاء الإمبراطورية الرومانية الغربية، ثم إعلان أتاتورك انتهاء الخلافة عام 1924، وقيام دولة تركيا على أنقاضها، ونقل العاصمة إلى مدينة أنقرة، ليبعد عن الذاكرة كل ما يتعلق بالتاريخ العثماني، والصراع الحضاري الممتد عبر مئات السنين، وليطمس كل المعالم المتعلقة، ليس فقط بدولة الخلافة الإسلامية، والتي كانت القسطنطينية تمثلها، بل بالإسلام نفسه.


خيرا فعل أردوغان وأوغلو وحزب العدالة والتنمية التركي، بإقامة تلك الاحتفالية، في هذا الوقت الذي تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط، وهي قلب العالم الإسلامي، مرحلة تحول حادة، ليس بهدف إسقاط إمبراطوريات غير موجودة، ولا بهدف إقامة إمبراطوريات لا تتوفر مقوماتها، ولكن، بهدف أعمق، هو سحق إرهاصات بدأت تظهر بين شعوب المنطقة، لتتخلص من واقع بائس تحت سطوة نظم حكم سلطوية شمولية فاسدة، وتنطلق نحو عالم جديد تمتلك فيه إرادتها للتغيير وبناء دول حديثة ديمقراطية قوية، قادرة على الدخول من جديد في حلبة المنافسة الحضارية، وهو ما ينذر بخطر شديد على الغرب، حتى لو كان الخطر بعيد المدى.

في ظل ذلك الظرف التاريخي، تكتسب الاحتفالية بذكرى فتح القسطنطينية أبعاداً غاية في الأهمية، بالنسبة للشعوب العربية والإسلامية. وعلينا، أن نتنبه إلى رسالتها الواضحة التي تسألنا: أين كنا؟ وأين أصبحنا؟ والأهم إلى أين نحن ذاهبون؟

وإذا كانت إجابة سؤال الماضي والحاضر واضحة، علينا البحث في إجابة سؤال المستقبل.

الغرب، وهو من خلف الإمبراطورية الرومانية، الشرقية والغربية، قرر أن يوجه ضربة استباقية مبكرة للغاية إلى الأمة، بإحباط كل تحركات الشعوب لاسترداد إرادتها، والأكثر خطورة، الاتجاه نحو تفكيك كل البنى السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيمية لتلك الشعوب، سعياً إلى إعادة تركيبها على أسس وبمعايير جديدة، لا تسمح بصحوتها في أي يوم.

قد يقول بعضهم، لقد انتهى عصر الإمبراطوريات، فأي خطر هذا الذي يخشاه الغرب؟ ما يخشاه الغرب حقيقة هو بعث الوعي في نفوس الأمة، فيملك الناس مقدراتهم في بلادهم، ويتجهون لبناء دول مدنية، ديمقراطية، حديثة، يربط بينها رابط ثقافي وحضاري وعقائدي، تلتحق بعالم المعرفة والتكنولوجيا، فتمتلك القدرة على المنافسة الحرة مع العالم الغربي، وهنا مكمن الخطر.

لا يخشى الغرب من فتح المسلمين عاصمة كبرى من عواصمه، لكنه يخشى من فتح أبواب الحرية والمعرفة أمام الشعوب، فتقيم دولا حقيقية، تقدم نموذجا يجذب كل عواصمه. هل ندرك ذلك؟

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.