فارس يواكيم: البشرية لا تقرأ تاريخها

01 نوفمبر 2017
(فارس يواكيم، العربي الجديد)
+ الخط -

فارس يواكيم كاتب ومترجم لبناني مقيم في ألمانيا ولد في الإسكندرية عام 1945. تخرّج من "المعهد العالي للسينما" في القاهرة واحترف الكتابة الدرامية، كما اشتغل في الصحافة ناقداً فنياً وكاتباً سياسياً، وأدار القسم العربي في إذاعة "دويتشه فيله". من كتبه: "ظلال الأرز في وادي النيل: لبنانيون في مصر" (2009)، "حكايات الأغاني" (2012)، و"الإسلام في شعر المسيحيين" (2016)، بالإضافة إلى كتبه المترجمة عن الألمانية. في أي لقاء معه لا بد أن تتعلم أشياء جديدة، فأنت لن تعود البتة بخفّي حُنين، وستعود محمّلاً بأسئلة ولربما بهموم أكبر.

يواكيم من المثقفين الذين اشتغلوا في مجالات إبداعية متعدّدة، من مسرح وسينما وصحافة وترجمة، وهو صاحب اطلاع واسع على الأديان والآداب العالمية والعربية، ولربما يظهر ذلك أكثر حين نتأمل ترجماته عن الألمانية، التي نجحت إلى حد كبير في استضافة النص الألماني داخل اللغة والثقافة العربيتين. كما أن المترجم فارس يواكيم، لا يترجم لأجل الترجمة، بل هو يختار كتبه ليقول شيئاً، ولا بد أن في تلك الكتب الكثير مما تقوله للحظة العربية الراهنة.


■ "إيرازموس، الانتصار والانكسار" هو الكتاب الثاني الذي تترجمه للنمساوي ستيفان زفايغ، بعد ترجمتك لكتابه "كاستيليو ضد كالفن، أو ضمير ضد العنف" (صدر بعنوان "عنف الدكتاتورية"). وهي كتب نشرها زفايغ في الفترة الزمنية نفسها، وتميز فيها برؤيوية لا تضاهى. ما الذي دفعك للاهتمام بزفايغ وترجمة كتبه هذه بالذات إلى اللغة العربية؟
- يستهويني أسلوب ستيفان زفايغ في الكتابة، حيث يتزاوج المفيد والممتع. كما تعجبني السلاسة في لغته، والنفس الروائي الذي يغلف به أفكاره، فيجذبها من جفاف التجريد إلى طراوة التشويق. كما أني وجدت خيطاً يربط بين الكتابين، والحالة الراهنة في عالمنا العربي. لجأ زفايغ إلى التاريخ وأسقط خلاصته على الواقع المعاصر. وهو صاغ الكتابين في ثلاثينيات القرن العشرين، مع صعود النازية والفاشستية. وأراد بهما إطلاق صرخة التحذير والاعتراض. ولم يكن بوسعه نقد التسلّط والدكتاتورية مباشرة، والحكم بيد أصحاب النظرة الأحادية الذين يقمعون الرأي المخالف. كان لجوؤه إلى التاريخ مثمراً، إذ وفّر المتعة للقارئ، وفي الوقت نفسه أشعل التساؤلات لديه، ونبّهه إلى أن ما أسفرت عنه الدكتاتورية بالأمس، يمكن أن يتكرّر اليوم. وعندما فرغت من قراءة الكتابين بالألمانية قلت لنفسي "ما أشبه الليلة بالبارحة". وما أشبه الواقع الأوروبي آنذاك بالواقع العربي حالياً. وروايات زفايغ ومعظم مؤلفاته ترجمت إلى اللغة العربية، بيد أني لاحظت خلوّ المكتبة العربية من هذين الكتابين فاشتغلت عليها.


■ في كتابه "إيرازموس، الانتصار والانكسار"، يقدّم لنا زفايغ ثلاثة نماذج مختلفة للمثقف، إيرازموس، لوثر زعيم الثورة البروتستانتية وفي نهاية كتابه، ماكيافيلي. وقد نترجم هذه الأسماء إلى شخصيات مفهومية ثلاثة: الفيلسوف، والثوري والسياسي. لماذا ينتصر السياسي أو الماكيافيلي دائماً؟ هل لأن البشرية لا تقرأ تاريخها؟
- تتكرر عبر المراحل التاريخية ظروف فكرية وسياسية تجعل الأفراد، بل والنخب، يقعون في الخطأ ذاته وكأنهم لم يقرأوا التاريخ. ألم يكرّر هتلر خطأ نابليون لدى غزو روسيا؟ أما الشخصيات الثلاث التي وصفتها فهي فعلاً أبطال أحداث الكتاب: الفيلسوف (أو القول)، والثوري (أو الفعل)، والسياسي (أو قاطف ثمار ما زرعه الآخران). إيرازموس الفيلسوف، هو صاحب الفكرة الأولى في النهضة والإصلاح، لولاه ما من نهضة. دائماً كانت الفكرة هي البدء. وغالباً لم تصل هي، كما هي، إلى النهاية. إيرازموس هو الرائد. لكن فكره ظلّ حبيس دائرة النخبة، وظلّ يعلن الحقيقة ولا يتحرك لكي يدخلها حيّز التنفيذ. فكر إيرازموس تلقّفه الثوري مارتن لوثر، ورفض أن يبقيه حبراً على ورق. هو الذي تولّى التعبئة وتحريك الجماهير. لكن قاطف الثمار في النهاية كان ماكيافيللي: الواقعي، الذي يستثمر أخطاء الآخرين و"يعرف من أين تؤكل الكتف". أكاديمية إيرازموس حدّت من انتشاره، أما سلبيته فسلبته إمكانية النفوذ. وأما اندفاع لوثر العنيف فحرمه من إمكانية الانتصار الحاسم، لأنه أيقظ الخصوم فلم يتمكن من كسب الإجماع. وقفز ماكيافيللي بينهما، متجاوزاً الفكر من دون حركة (إيرازموس)، والحركة بلا فكر (لوثر)، وأدرك أن السياسة هي فن الممكن. وبرغم إخلاص إيرازموس ولوثر، كل على طريقته، كانت الغلبة لصاحب مقولة "الغاية تبرر الوسيلة"، من دون أن يكون مُصلحاً أو مُخلّصاً بالضرورة.


■ ما الذي يمكننا تعلّمه من سيرة إيرازموس وشخصيته وفلسفته؟
- انسجمت فلسفة إيرازموس مع شخصيته التي توافقت مع سيرته، أو هي نتاجها. هو الداعية إلى التسامح، ورفض أحادية الرأي، وإلى الإصلاح، والوحدة والسلام، وأعطى الإنسانية أولوية الاهتمام. وهي قيم خالدة في الجانب الإيجابي من التاريخ. إيرازموس هو الأب الشرعي للاتحاد الأوروبي قبل نحو خمسة قرون من قيامه. ولا غرابة في إطلاق اسمه على الجامعة الأوروبية الموحدة. لكنه في الوقت نفسه سعى إلى اعتماد اللغة اللاتينية، كلغة موحدة عابرة للدول. بيد أن إشكاليته هذه نجد لها مشابهاً في اللغة الفصحى في عالمنا العربي. وهي اللغة التي بوسعها أن تكون موحدة بين "الشعوب العربية المتنافرة"، لكنها ما زالت أسيرة القراءة والكتابة فقط.


■ يكتب زفايغ عن إيرازموس: "ذلك أن من يفكر باستقلالية، يفكر في الوقت نفسه بما هو أفضل وأنفع للجميع". ربما كان طه حسين أقرب العرب إلى الإيرازميّة، ولربما أيضاً زكي نجيب محمود، كيف تنظر إلى الأمر؟
- ثمة جوانب شبه كثيرة بين إيرازموس من جهة وطه حسين وزكي نجيب محمود من جهة ثانية. الثلاثة تميّزوا بالموسوعية، وبالرغبة الحقيقية في الإصلاح. كما تشابه الثلاثة في التمسك المنهجي والمخلص لما اقتنعوا به من فكر، وفي الرؤية الصافية، وفي الانفتاح على ثقافات العالم أجمع. ومن الطبيعي أن من يفكر باستقلالية ينجح في استنباط الأفضل والأنفع، إذ يتخلص من مؤثرات التعصب البشعة وهي التي تقود إلى التقوقع ورفض الآخر.

المساهمون