28 مايو 2017
فاتورة الدولة الريعيّة
بعد أسابيع من الحديث عن "التحوّل الوطني"، وأشهر من الحديث عن "تنويع مصادر الدخل"، انتهى العام 2015 في السعودية بإعلان خطة التقشّف عبر الميزانية الجديدة، على الرغم من أن الوزراء اهتموا بالتبشير برفع الدعم عن أسعار المحروقات والماء والكهرباء باعتبارها خططاً لترشيد الاستهلاك وحفظ الطاقة، إلا أن كامل سياق الميزانية، وما سبقها من قرارات، وما يُتوقع أن يليها، هو سياق تقشفي بامتياز. خلال الأشهر الماضية، على سبيل المثال، توقفت المنح التعليمية الداخلية لطلاب الجامعات، وتوقف صرف بدلاتٍ كثيرة لموظفي الحكومة المدنيين، وارتفعت أسعار تذاكر الخطوط الجوية السعودية، وألغيت التذاكر المخفضة المخصصة للطلاب التي كانت معتمدة عقوداً طويلة، من أجل تسهيل تنقلاتهم الداخلية. أما الميزانية العامة فجاءت برفع الدعم الفوري عن المحروقات (أصبح سارياً خلال ساعات من إعلان الميزانية)، ووعدت في ثناياها بمزيد من التقشف في المصروفات الحكومية عموماً، وفي الرواتب والبدلات خصوصاً، كما وعدت بمراجعة الرسوم والغرامات الحالية (بهدف رفعها) مع فرض رسوم جديدة، والأهم أنها وعدت باتّخاذ الترتيبات خلال الأعوام المقبلة لفرض ضريبة القيمة المضافة التي أقرها مجلس التعاون الخليجي.
بينما لا يزال "برنامج التحوّل الوطني" مجرد فكرة غامضة، فإن التقشّف أصبح واقعاً. وبينما نتحدث عن "تنويع مصادر الدخل"، فإن ما يحدث فعلاً هو تنويع الرسوم والضرائب والغرامات والفواتير المفروضة على المواطن. بدائل الدولة الريعية أفكار، لكن الواقع الذي يعيش فيه المواطن فعلياً هو الدولة الريعية التي سيسدد ثمن استدامتها في زمن التقشّف. وبينما فشلت كل الاقتراحات الماضية في إيجاد بدائل للنفط، حافظ التقشّف والاقتراض دائماً على تماسك الدولة. لا وجود في الذاكرة الوطنية لخبرة العيش خارج الدولة الريعية، لكنّها تختزن خبراتٍ طويلة من العيش تحت التقشّف في كل الأزمات النفطية السابقة، ويمكنها أن تتنبأ بالقادم، قياساً على ما فات، وأدناهُ أزمة عام 1998 التي آلت إلى الإجراءات التقشفية نفسها، تحت عنوانٍ صريح وبسيط أطلقه وليّ العهد آنذاك: شدّ الأحزمة. ارتفاع أسعار المحروقات
والماء والكهرباء لن يكون سوى الحركة الأولى في سلسلة ارتفاعات عامة وسريعة في جميع السلع والخدمات تقريباً في سوقٍ منفلتة (وليست حرة)، وقد يؤدي فرض ضريبة القيمة المضافة لاحقاً واستحداث رسوم جديدة على القطاع التجاري إلى ارتفاع الأسعار في النهاية بشكلٍ يضغط على أصحاب الدخل المتوسط. سيضع ارتفاع سعر البنزين في دولة تم تخطيطها على أساس أن السيارة هي وسيلة المواصلات الرئيسة (وأحياناً الوحيدة)، عبئاً إضافياً مباشراً على تنقلات محدودي الدخل وعلى النساء العاملات برواتب مُتدنّية، يذهب نصفها إلى السائق الذي يحدد أجرته بنفسه، ولا يخضع لأيّ تنظيم. تقليص بند الرواتب والأجور في القطاع الحكومي يعني الشُحّ الفوري في الوظائف الحكومية قبل النجاح في استحداث بدائل مناسبة وكافية في القطاع الخاص، وارتفاع معدلات البطالة عموماً. زمن التقشّف هو المرحلة التي يتوجّب فيها سداد فاتورة الدولة الريعية، لكن حصص المواطنين من السداد تم تحديدها على أساس المساواة، لا على أساس العدالة، فكلفة ارتفاع البنزين على مواطن محدود الدخل ليست ذات الكلفة على الأثرياء، واحتمالات البطالة التي ستهدد أوضاع الطبقة الوسطى لن تمسّ الطبقة العليا، وضريبة القيمة المضافة والرسوم الجديدة إذا ما فُرضت ستُفرض على الجميع، لا بطريقة مُتدرّجة تتناسب وشرائح الدخل. تنتفع شرائح اجتماعية عليا بطرق اقتصادية متنوعة من إيرادات النفط عندما تفيض، لكن مسؤولية شد الأحزمة وسدّ العجز زمن التقشف تقع على عاتق الموظفين، كما يوحي (عن غير قصد) تصريح وزير المالية الذي يشير فيه إلى السبب الرئيس لعجز الموازنة، وهو مدفوعات الراتبين للمواطنين، أوائل عام 2015. هذه ليست غلطة في توزيع المسؤوليات على المواطنين، بل هي في صميم أسلوب الدولة الريعية في إعادة إنتاج نفسها وبنيتها الاجتماعية.
التقشف هو الواقع الراهن، وبينما يشد المواطنون الأحزمة، ويسددون فواتير الدولة الريعية، فإن بعضهم يحلم باستعادة دولة الرفاه والطفرة بكامل زخمها وفوائضها وهباتها و"راتبيها" بلا عمل ولا تعب، ويحلم بعضهم الآخر بالتقدّم نحو تحرير العقد الاجتماعي وإعادة تأسيس العلاقة بين المواطنين والحكومة على قاعدة المشاركة السياسية والاقتصادية، بينما يحلم السياسيون بتحولّ اقتصادي بلا تحوّل سياسيّ. أيّ هذه الأحلام المتنافرة سينتصر في النهاية؟
يؤكّد باحثون في العلوم السياسية أن الأزمات الاقتصادية تخلق أفضل الفرص الممكنة للتحول السياسي والاقتصادي في الدولة الريعية، فيما يؤكد التاريخ الاقتصادي السعودي أن أحلام دولة الرفاه كانت تنتصر في نهاية في الأزمات الاقتصادية التي أدارتها الحكومة بحذر، وأن أغلبية المواطنين تظلّ منخرطة في العقد الاجتماعي القائم، وتعتقد أنها تحصل على ميزاتٍ معقولة ضمن الدولة الريعية. هذا يعني أن المرحلة المقبلة ستكون مرتهنة لأمرين، الأول: حدّة الضغوط من أجل التحوّل الاقتصادي التي إذا ما تجاوزت مستوى معيّناً ستفرض على الجميع تحولاً اجتماعياً شاملاً، بغض النظر عن أحلامهم. الثاني: ارتفاع تطلّعات المواطنين الاقتصادية والسياسية إلى مستوياتٍ يصعب إشباعها ضمن حالة الدولة الريعية المتقشفة.
بينما لا يزال "برنامج التحوّل الوطني" مجرد فكرة غامضة، فإن التقشّف أصبح واقعاً. وبينما نتحدث عن "تنويع مصادر الدخل"، فإن ما يحدث فعلاً هو تنويع الرسوم والضرائب والغرامات والفواتير المفروضة على المواطن. بدائل الدولة الريعية أفكار، لكن الواقع الذي يعيش فيه المواطن فعلياً هو الدولة الريعية التي سيسدد ثمن استدامتها في زمن التقشّف. وبينما فشلت كل الاقتراحات الماضية في إيجاد بدائل للنفط، حافظ التقشّف والاقتراض دائماً على تماسك الدولة. لا وجود في الذاكرة الوطنية لخبرة العيش خارج الدولة الريعية، لكنّها تختزن خبراتٍ طويلة من العيش تحت التقشّف في كل الأزمات النفطية السابقة، ويمكنها أن تتنبأ بالقادم، قياساً على ما فات، وأدناهُ أزمة عام 1998 التي آلت إلى الإجراءات التقشفية نفسها، تحت عنوانٍ صريح وبسيط أطلقه وليّ العهد آنذاك: شدّ الأحزمة. ارتفاع أسعار المحروقات
التقشف هو الواقع الراهن، وبينما يشد المواطنون الأحزمة، ويسددون فواتير الدولة الريعية، فإن بعضهم يحلم باستعادة دولة الرفاه والطفرة بكامل زخمها وفوائضها وهباتها و"راتبيها" بلا عمل ولا تعب، ويحلم بعضهم الآخر بالتقدّم نحو تحرير العقد الاجتماعي وإعادة تأسيس العلاقة بين المواطنين والحكومة على قاعدة المشاركة السياسية والاقتصادية، بينما يحلم السياسيون بتحولّ اقتصادي بلا تحوّل سياسيّ. أيّ هذه الأحلام المتنافرة سينتصر في النهاية؟
يؤكّد باحثون في العلوم السياسية أن الأزمات الاقتصادية تخلق أفضل الفرص الممكنة للتحول السياسي والاقتصادي في الدولة الريعية، فيما يؤكد التاريخ الاقتصادي السعودي أن أحلام دولة الرفاه كانت تنتصر في نهاية في الأزمات الاقتصادية التي أدارتها الحكومة بحذر، وأن أغلبية المواطنين تظلّ منخرطة في العقد الاجتماعي القائم، وتعتقد أنها تحصل على ميزاتٍ معقولة ضمن الدولة الريعية. هذا يعني أن المرحلة المقبلة ستكون مرتهنة لأمرين، الأول: حدّة الضغوط من أجل التحوّل الاقتصادي التي إذا ما تجاوزت مستوى معيّناً ستفرض على الجميع تحولاً اجتماعياً شاملاً، بغض النظر عن أحلامهم. الثاني: ارتفاع تطلّعات المواطنين الاقتصادية والسياسية إلى مستوياتٍ يصعب إشباعها ضمن حالة الدولة الريعية المتقشفة.