فئات وشرائح عليا

29 يوليو 2019
لن تحصل على "امتيازات" عند تقاعدها (سيباستيان ميير/ Getty)
+ الخط -

عندما سألت أحد كبار الأساتذة الجامعيين عما يفعله بعد أن تقاعد من عمله، بدا يائساً وقدم لي جواباً لم أكن أتوقع سماعه منه، باعتباره من كبار المؤلفين في حقل اختصاصه أيضاً. قال: "لا أفعل شيئاً البتة، فقط أنتظر الموت". وعندما سألته ثانية لماذا لا تكتب، أجاب: "لمن سأكتب؟ فالكتاب الذي أصدره يجب عليّ أن أتحمل كلفة طباعته لدور النشر، وبدون أي مردود فعلي لي، ثم أن لا أحد هذه الأيام يقرأ كتاباً أو صحيفة فلماذا أكتب ولمن أكتب؟ إذن فقط أنتظر الموت". هذا كان جوابه، ما يعني أن حياته باتت زائدة عن احتماله، لذلك لم أستغرب عندما قرأت نعيه بعد حوالي ثلاثة أشهر من حديثنا. أتساءل الآن هل لو وجد هذا الرجل جدوى من بقائه على قيد الحياة هل كان مات بهذه السرعة؟

الحقيقة أن لا إحصاء دقيقاً لعدد المتقاعدين في دول المنطقة العربية، وهم بالتأكيد بالملايين. هؤلاء الذين أفنوا زهرة أعمارهم في العمل يفتقدون الكثير من الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها زملاؤهم في الدول والمجتمعات المتقدمة. حيث تتأمن لهم الخدمات الطبية والاجتماعية الممتازة، فضلاً عن المعاشات التي تمكنهم سنوياً من تمضية إجازات في الدول التي كانوا يرغبون في زيارتها ولم تتح لهم ظروف عملهم ذلك. الآن يستطيعون فعل ذلك. المهم أن هذه الامتيازات هي جزء من كل، إذ يحصلون على حق استعمال المواصلات العامة بكلفة زهيدة، وارتياد المتاحف والمسارح ودور السينما وأماكن الترفيه بأسعار تتلاءم مع المتوسط من قدراتهم.

لا نريد المقارنة بين ما نحن فيه وما غيرنا عليه، المهم أن هذه الفئة تملك من الوقت الكثير ولا يُترك لها مجال للإفادة من كفاءاتها التي تراكمت عبر عشرات السنين من الممارسة. لكن المشكلة أكثر تعقيداً، فالكثير من المؤسسات بما فيها بعض الجامعات تمنع على أساتذتها ممن تجاوزوا سن التقاعد العمل في صفوف كادرها التعليمي، ولا تسمح لهم حتى بالإشراف على الرسائل والاطروحات الجامعية، ما يؤدي إلى خسارة كفاءات راكمت خبرات تدريس وسنوات بحث. علماً أن بعض الذين يملكون معاشات تقاعدية على استعداد لتوظيف كفاءاتهم مجاناً وبما لا يتضارب مع عمل الكادر المتفرغ للعمل الأكاديمي في الكليات. العمل هنا يعادل المساهمة في أنشطة هذه الحياة، والوجود النافع والمنتج.




كثيرون ممن يملكون هذه الكفاءات قد لا يتمتعون بحقوق نظام تقاعدي يضمن لهم شيخوخة مستقرة على الصعيدين الاجتماعي والمادي. وهنا تقع الواقعة؛ إذ يضطر هؤلاء إلى القبول بأي عمل يدر عليهم دخلاً ولو بسيطاً. ينطبق هذا على فئة من الفقراء المياومين وكذلك ذوي الكفاءات العالية الذين ضاقت بهم سبل سوق العمل والأجر الذي يستطيعون خلاله توفير قرشهم الأبيض ليومهم الأسود. وبين هؤلاء وهم من الجنسين: مهندسون وأطباء صحة ومختبر وأشعة وجراحون وخبراء في القانون والمحاسبة وجغرافيون ومؤرخون وفيزيائيون وكيميائيون وما شابه. ويعمد بعض هؤلاء أمام انعدام الفرص للعمل باختصاصاتهم إلى البحث عن أي عمل يسدون به فراغ حياتهم المادية والمعنوية. لذا لن تعدم أن تركب مع سائق تاكسي في بيروت أو الرباط يملك من الشهادات ما يبقيه صامتاً رفضاً لما هو عليه من مهانة عيش.

*باحث وأكاديمي

المساهمون