علّمت القرن الـ20 اتجاهات فنيّة عدّة، بينها أعمال يتمحور موضوعها الرئيسي حول "تأمّل" الفن والتفكير به، في الأدب والفنون التشكيلية، إذْ بات العمل الفنّي "خطاباً" حول الفن. بدا كأنّ الطموح الأساسي لجزءٍ كبيرٍ من فنون هذا القرن طرح سؤال ماهية الفنّ. في السينما، تندرج أبحاث المخرج الفرنسي السويسري جان ـ لوك غودار (1930) في هذا الاتجاه العام، مركّزة طرحها أكثر على سؤالين: "ما هي السينما؟" و"ما هو الفيلم؟".
ربما لهذا يبرز شيءٌ من التفاوت في تقدير سينماه، بين نقّاد يرون في أعماله عناصر جاهزة لأسئلته حول الفن السينمائي، وطلاب المدارس السينمائية الذين يرون فيه مثالاً، والجمهور العريض الذي يشعر بشيء من مللٍ، قليلٍ أحياناً وكثيرٍ أحياناً أخرى.
أفلام غودار مشرّبة بتأمّل السينما لحالها، بأسلوبٍ لا يخلو من طرافة وسخرية. هذا التفكير حول السينما من داخل السينما سمح له، في وقتٍ من مسيرته الفنية، بإنجاز أفلامٍ تجريبية عانى البعضُ مشاهدتَها، لا سيما في الفترة الأخيرة. أفلام تتّسم بالغموض ومشقّة البحث عن المعنى، إنْ كان لهذا البحث معنى. فغودار نفسه قال ذات مرّة: "لو كنتُ ناقداً، لقلتُ لم أفهم جيداً، أو لستُ متأكداً من الفهم". هذا يصعب قوله.
لكن غودار استطاع، في أعمالٍ أخرى، جذب المُشاهد بقوّة، عبر هذه النبرة المتميّزة والخاصة جداً بأفلامٍ عُرفتْ بكل ما تبثّه من سحر. فغودار يمنح أفلامه سحراً يدوم، ويعرف كيف تمسّنا وتُحرّك عواطفنا بكل ما تحتويه من شجن مبهر وإحباط محزن، مشوبين بسخرية لاذعة ويأس صارخ.
في الـ89 من العمر، يبقى غودار هو نفسه غودار، ودائماً غودار. في فيلمه الأخير "كتاب الصورة" (2018)، هناك البحث نفسه عن الشكل، من دون ممثلين ومن دون تصوير، إذْ يُعيد تدوير صُوَر مأخوذة من الأرشيف، لأفلامٍ ورسومٍ، ويسرد مقاطع من كتبٍ وأقوال، ككتاب "طموح في الصحراء" للكاتب المصري بالفرنسية ألبير قصيري، وعبارة ليوسف شاهين عن الشرق الذي هو أكثر فلسفية من الغرب. "كتاب الصورة" فيلمٌ غامض، كما وصفه نقّاد فرنسيون، والبحث عن الشكل والتجريب فيه يبني ويهدم ويعيد البناء. فيه يجب الاستماع إلى الأصوات والكلمات والموسيقى، ثم انتظار المعنى، الذي ربما يأتي، أو لا. فكما كتب غودار للصحافيين، عند عرض الفيلم في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" (فهو لم يحضر المهرجان)، كعادته في استفزاز الآخرين: "يُصنع الفيلم ليُري ما يُصنع. هذا حال معظم الأفلام (...). لكنْ، أفلامٌ قليلة جداً تُصنع لتُري ما لا يُصنع. أرجو أن يساعد فيلمي قليلاً على التأمّل بما لا يُصنع".
في تقديم الفيلم، أُدرجَتْ عبارات شعرية، أريدَ لها التعريف بهذا العمل التجريبي:
"كنّا نتساءل كيف في الظلام الدامس
يمكن أن تنشأ ألوان بهذه الكثافة فينا
بصوت ناعم وضعيف
كنّا نقول أشياء عظيمة
أشياء مهمّة ومُذهلة وعميقة وعادلة
صُور وكلمات
لكأنّه حلم سيئ مكتوب في ليلة عاصفة
تحت عيون الغرب
الجنّة الضائعة
الحرب هنا".
اختار غودار "كتاب الصورة" ليكون نواة معرضٍ كان يجب أنْ يُقام في الدورة الـ51 (24 إبريل/ نيسان ـ 2 مايو/ أيار 2020) لـ"مهرجان نيون للفيلم الوثائقي (رؤى الواقع)"، في متحف قصر "نيون" في سويسرا. لكن تحوّل المهرجان السويسري إلى منصّة افتراضية، منذ 17 إبريل الفائت، وإغلاق المتحف بسبب وباء "كورونا"، أجّلا المعرض والعرض حتّى انتهاء فترة العزل، إذْ أعلنت إدارة المتحف أنّ المعرض سيقام بمجرّد إعادة افتتاحه، مع "لكن"، فكلّ شيء بات يعتمِد على تطوّر الوضع الراهن بسبب الوباء.
"مشاعر، علائم، شغف"، معرضٌ مُتخيّل من جان ـ لوك غودار حول "كتاب الصورة"، تمّ التحضير له على مدى عامين. إنّه خلاصة حوار طويل بين المخرج الذي قَلَب مفاهيم الفن السابع بأسلوبه المُجدِّد والعسير على التصنيف، وفابريس آرانيو، مُنتجه ومعاونه المقرّب، من جهةٍ، وإميلي بوجيس، المديرة الفنية لمهرجان "رؤى الواقع"، من جهة أخرى. يُتيح المعرض للجمهور الإلمام بعمل لم يسبق عرضه، والوقوف على تجربة بمظهرٍ جديد لم يحصل سابقاً، لهذا المخرج "الأسطوري"، الساكن في مدينة "رول"، والمرتبط بمدينة "نيون" عبر تاريخه الشخصي. في المعرض، يُعاد تقطيع الفيلم وتفتيته إلى 6 أجزاء، وستُبتكر الخاتمة مجدّداً، على مستويين صوتي ومرئي، للابتعاد عن الشكل المستقيم للسرد، وخلق نوع آخر من العلاقة مع الصورة.
والمهرجان منح غودار حرية اختيار أفلامٍ لعرضها في برامجه، فاختار 6، منها 4 تُعتبر من كلاسيكيات السينما، ومقاطع منها معروضة في "كتاب الصورة"، وواحد له بعنوان "رسائل إلى فريدي بواش" (1982)، وسادس لفابريس آرانيو نفسها، بعنوان "فريدي بواش" (2012). هذا كلّه مهدى إلى فريدي بواش، الكاتب ومدير المكتبة السينمائية السويسرية لأعوام عدّة، الذي رحل العام الفائت. الأفلام الأربعة هي: "اللذة" (1952) لماكس أوفلوس، و"الأرض" (1969) ليوسف شاهين، و"المنطقة المركزية" (1971) لميكائيل سنو، و"سيسيليا" (1999) لجان ماري ستروب ودانيال وييه.
في تقديمه المعرض، كتب جان ـ لوك غودار: "أتعرفون؟ علّمتني أمي شيئين، القراءة والحياكة. تابعتُ عمل الاثنين كلّ حياتي، فأنا أقرأ، ومع السينما أتابع الحياكة".
أفلام غودار مشرّبة بتأمّل السينما لحالها، بأسلوبٍ لا يخلو من طرافة وسخرية. هذا التفكير حول السينما من داخل السينما سمح له، في وقتٍ من مسيرته الفنية، بإنجاز أفلامٍ تجريبية عانى البعضُ مشاهدتَها، لا سيما في الفترة الأخيرة. أفلام تتّسم بالغموض ومشقّة البحث عن المعنى، إنْ كان لهذا البحث معنى. فغودار نفسه قال ذات مرّة: "لو كنتُ ناقداً، لقلتُ لم أفهم جيداً، أو لستُ متأكداً من الفهم". هذا يصعب قوله.
لكن غودار استطاع، في أعمالٍ أخرى، جذب المُشاهد بقوّة، عبر هذه النبرة المتميّزة والخاصة جداً بأفلامٍ عُرفتْ بكل ما تبثّه من سحر. فغودار يمنح أفلامه سحراً يدوم، ويعرف كيف تمسّنا وتُحرّك عواطفنا بكل ما تحتويه من شجن مبهر وإحباط محزن، مشوبين بسخرية لاذعة ويأس صارخ.
في الـ89 من العمر، يبقى غودار هو نفسه غودار، ودائماً غودار. في فيلمه الأخير "كتاب الصورة" (2018)، هناك البحث نفسه عن الشكل، من دون ممثلين ومن دون تصوير، إذْ يُعيد تدوير صُوَر مأخوذة من الأرشيف، لأفلامٍ ورسومٍ، ويسرد مقاطع من كتبٍ وأقوال، ككتاب "طموح في الصحراء" للكاتب المصري بالفرنسية ألبير قصيري، وعبارة ليوسف شاهين عن الشرق الذي هو أكثر فلسفية من الغرب. "كتاب الصورة" فيلمٌ غامض، كما وصفه نقّاد فرنسيون، والبحث عن الشكل والتجريب فيه يبني ويهدم ويعيد البناء. فيه يجب الاستماع إلى الأصوات والكلمات والموسيقى، ثم انتظار المعنى، الذي ربما يأتي، أو لا. فكما كتب غودار للصحافيين، عند عرض الفيلم في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" (فهو لم يحضر المهرجان)، كعادته في استفزاز الآخرين: "يُصنع الفيلم ليُري ما يُصنع. هذا حال معظم الأفلام (...). لكنْ، أفلامٌ قليلة جداً تُصنع لتُري ما لا يُصنع. أرجو أن يساعد فيلمي قليلاً على التأمّل بما لا يُصنع".
في تقديم الفيلم، أُدرجَتْ عبارات شعرية، أريدَ لها التعريف بهذا العمل التجريبي:
"كنّا نتساءل كيف في الظلام الدامس
يمكن أن تنشأ ألوان بهذه الكثافة فينا
بصوت ناعم وضعيف
كنّا نقول أشياء عظيمة
أشياء مهمّة ومُذهلة وعميقة وعادلة
صُور وكلمات
لكأنّه حلم سيئ مكتوب في ليلة عاصفة
تحت عيون الغرب
الجنّة الضائعة
الحرب هنا".
اختار غودار "كتاب الصورة" ليكون نواة معرضٍ كان يجب أنْ يُقام في الدورة الـ51 (24 إبريل/ نيسان ـ 2 مايو/ أيار 2020) لـ"مهرجان نيون للفيلم الوثائقي (رؤى الواقع)"، في متحف قصر "نيون" في سويسرا. لكن تحوّل المهرجان السويسري إلى منصّة افتراضية، منذ 17 إبريل الفائت، وإغلاق المتحف بسبب وباء "كورونا"، أجّلا المعرض والعرض حتّى انتهاء فترة العزل، إذْ أعلنت إدارة المتحف أنّ المعرض سيقام بمجرّد إعادة افتتاحه، مع "لكن"، فكلّ شيء بات يعتمِد على تطوّر الوضع الراهن بسبب الوباء.
"مشاعر، علائم، شغف"، معرضٌ مُتخيّل من جان ـ لوك غودار حول "كتاب الصورة"، تمّ التحضير له على مدى عامين. إنّه خلاصة حوار طويل بين المخرج الذي قَلَب مفاهيم الفن السابع بأسلوبه المُجدِّد والعسير على التصنيف، وفابريس آرانيو، مُنتجه ومعاونه المقرّب، من جهةٍ، وإميلي بوجيس، المديرة الفنية لمهرجان "رؤى الواقع"، من جهة أخرى. يُتيح المعرض للجمهور الإلمام بعمل لم يسبق عرضه، والوقوف على تجربة بمظهرٍ جديد لم يحصل سابقاً، لهذا المخرج "الأسطوري"، الساكن في مدينة "رول"، والمرتبط بمدينة "نيون" عبر تاريخه الشخصي. في المعرض، يُعاد تقطيع الفيلم وتفتيته إلى 6 أجزاء، وستُبتكر الخاتمة مجدّداً، على مستويين صوتي ومرئي، للابتعاد عن الشكل المستقيم للسرد، وخلق نوع آخر من العلاقة مع الصورة.
والمهرجان منح غودار حرية اختيار أفلامٍ لعرضها في برامجه، فاختار 6، منها 4 تُعتبر من كلاسيكيات السينما، ومقاطع منها معروضة في "كتاب الصورة"، وواحد له بعنوان "رسائل إلى فريدي بواش" (1982)، وسادس لفابريس آرانيو نفسها، بعنوان "فريدي بواش" (2012). هذا كلّه مهدى إلى فريدي بواش، الكاتب ومدير المكتبة السينمائية السويسرية لأعوام عدّة، الذي رحل العام الفائت. الأفلام الأربعة هي: "اللذة" (1952) لماكس أوفلوس، و"الأرض" (1969) ليوسف شاهين، و"المنطقة المركزية" (1971) لميكائيل سنو، و"سيسيليا" (1999) لجان ماري ستروب ودانيال وييه.
في تقديمه المعرض، كتب جان ـ لوك غودار: "أتعرفون؟ علّمتني أمي شيئين، القراءة والحياكة. تابعتُ عمل الاثنين كلّ حياتي، فأنا أقرأ، ومع السينما أتابع الحياكة".