تكاد كل كلمة في رحلة الفيلسوف والكاتب الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته، والتي قام بها عام 1786 إلى إيطاليا، تنطق بمدى الشهية المفتوحة لهذا الألماني الهارب من ثقل الحياة في بلده، ومن الشهرة التي اكتسبها هناك، باحثا عن لحظة صفاء، وحوار مفتوح مع الذات، في فضاء كل ما فيه يعزز قيم الجمال والإبداع والحب.
هنا في هذه الجغرافيا الإيطالية البديعة، في مدنها وقراها وريفها وجزرها، سيجد ضالته. فماذا يطلب الكاتب والمفكر والمشبع بالروحانيات، والملذوع من تجربة الحب في شبابه، ومن تعرضه لمحن صحية، قبل أن يتعافى، ومن حصد النجاح والصيت، وأجمع على قيمته المحبون والحساد، ألا يستحق من اعتلى أعلى مناصب الدولة أن يحزم حقيبته على عجل، ويهرب فارا بجلده، كي ينعم بهذه السياحة الفتوحة للعقل والقلب والوجدان، للروح وللبدن، للعين وللبصيرة.
لقد حظي غوته بشهرة واسعة في بلده، خصوصا بعد أن نشرت روايته "آلام فيرتر"، والتي أرخ فيها لتجربته الفاشلة في الحب، وهو في ريعان الشباب. واعتبرت في وقتها خروجا عن تقاليد الكتابة السائدة، وقد تمكن من استدرار عطف القراء، بسبب قصة الحب الأليمة.
وبقيت هذه الرواية كعلامة فارقة في مسيرة غوته الإبداعية والفكرية، زادها ولعه بالفكر الصوفي، وانفتاحه على الثقافات واللغات الأخرى بما فيها اللغة العربية، وأبعادها الدينية والحضارية. وقد تجلى ذلك من خلال إصداره الشعري "الديوان الغربي - الشرقي" واهتمامه بالشعر العربي، خصوصا شعراء المعلقات والمتنبي وأبي تمام.
هذا هو غوته المتعدد، غزير الإنتاج، شكل إلى جانب صديقه شيلر قطبا من أقطاب الثقافة الألمانية في القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر، ليطبع بذلك مرحلة تاريخية واسعة، ربما ما تزال سارية المفعول حتى الآن، حيث يعتبر غوته أب الأدب والفكر الحديث في ألمانيا.
بالعودة إلى الرحلة التي قام بها غوته إلى إيطاليا، في عام 1786، واستمرت إلى 1788، وصدرت في ترجمة عربية عن دار المتوسط، بعنوان "رحلة إيطالية، يوميات ومراسلات" بترجمة فالح عبد الجبار، فقد كانت هامة في تاريخه الثقافي والإبداعي، ونلمس في تفاصيلها، هذا التوق الشديد إلى الانعتاق من الروتين اليومي، ومن الجو الخانق في ألمانيا، يكتب في مستهل تلك الرحلة، "انسللت مغادرا كالزبارد في الثالثة فجرا، لولا ذلك، لما سمحوا لي بالمغادرة. ف
لعل الأصدقاء الذين احتفلوا احتفالا طيبا بعيد ميلادي يوم الثامن والعشرين من آب، اكتسبوا بذلك حق احتجازي، ولكن لم يعد بوسعي الانتظار أكثر من ذلك. حزمت حقيبتي سفر، واحدة كبيرة وأخرى صغيرة، وقفزت إلى عربة البريد، لأصل زوتا في الساعة السابعة والنصف. كان الصباح ضبابيا، هادئا وجميلا، فبدا لي فأل خير. كانت الغيوم العليا أشبه بالصوف المنفوش، أما السفلى فمدلهمة.
بعد ذلك الصيف البائس، كنت أتطلع إلى التمتع بخريف حسن. وصلت إلى إيجر عند الظهيرة. كانت الشمس حارقة، وخطر لي أن هذا المكان يقع على نفس خط عرض بلدتنا. غمرني السرور وأنا أتناول وجبة الغداء تحت شمس صافية على خط العرض الخمسين".
يبدو غوته من خلال مراسلاته ويومياته سعيدا جدا، ومنطلقا ونهما لقضم الحياة، وهو مستعد لكل مغامرة، ملبيا لكل دعوة، هدفه الوصول إلى إيطاليا، وعيش مغامرته الشخصية على أوسع نطاق.
لا تخفى البراعة السردية في قلمه الرشيق، ولا التفاته إلى الجمال الإيطالي المحيط به من طبيعة وبشر، كما تشكل هذه الرحلة، في عمقها، أرضية وساحة "معركة" للأعمال المقبلة، التي أتاح له المقام الإيطالي، فرصة التفكير فيها والتخطيط لها.
ولا يخفى أيضا، الاستعراض الموسوعي في هذه المراسلات واليوميات، وكيف كان حريصا على تدوينها، مع ما يكتنف ذلك من أفكار ومناقشات وملاحظات وقدرة جغرافية عالية، جعلته يرسم طبوغرافيا المجال العام في المدن والأماكن والأرياف التي مر منها، علاوة على الاشخاص الذين قابلهم من مختلف طبقات المجتمع، والحوارات التي جرت بينه وبينهم.
وهو بمعنى من المعاني، يقدم صورة تفصيلية عن إيطاليا في تلك الفترة الزمنية، إيطاليا البشر والطبيعة والتنوع والصفاء والصحة، وليس إيطاليا اليوم، المريضة، كما شاء لها الوباء أن تخوض معركتها، من أجل الانبعاث من جديد.
وهو نفسه يؤكد، على أن الطبيعة الجميلة تشحذ الخيال وتنضيه، وتساعد على الإبداع، يكتب "النهارات طويلة ولا شيء يعكر صفو أفكاري، كما أن جلال المشهد لا يثلم نصل خيالي الشعري: على العكس، فهذا الخيال يحب الحركة والهواء الطلق، ويجتمع بفضلهما".
مراسلاته حية وضاجة، لقد أرادها أن تكون ورشة لأفكاره، وحوارا طويلا مع نفسه. تشبه هذه الرحلة الإيطالية، مراجعة ذاتية، وفاصلة بين مرحلتين وحياتين وزمنين. وفي لحظة ما، سيؤكد هو نفسه، على أهمية تلك الرحلة في حياته الشخصية وتأثيرها على إبداعه وفكره.
عن وصوله إلى مقدمة التراب الإيطالي، في مدينة ترينتو، يقول "بعد انصرام خمسين ساعة ضاجة بالحياة، وصلت إلى ترينتو في الساعة الثامنة من مساء الأمس، وخلدت مبكرا إلى النوم، وأنا الآن من جديد في حال يسمح بمواصلة السرد. في مساء التاسع من أيلول، وبعد أن أكملت الحصة الأولى من تدوين كلماتي، فكرت أن أحاول رسم صورة للحانة والبريد في برينر، لكني لم أنجح في مسعاي. لقد أخفقت في التقاط معالم المكان، وعدت إلى المنزل وأنا ممتعض بعض الشيء.
وسألني صاحب النزل إن كانت بي رغبة للانطلاق في الحال نظرا لأن القمر سيبزغ قريبا، والطريق سيكون رائعا. كنت أعرف أنه يريد لجياده أن تعود في الصباح التالي، لكي تحمل له كومة القش الثانية، وأن نصحه هذا لم يكن مجردا من المصلحة، بأي حال، إلا أنه توافق مع رغائب قلبي، فقبلت العرض في خفة وابتهاج. انبجست الشمس ثانية، أما الهواء، فكان منعشا: حزمت حقائبي، وانطلقت عند السابعة، كانت الغيوم قد تبددت، وأطل علينا مساء جميل".
حوار لمّاح
يلتقط غوته في يومياته، حوارا لماحا مع رجل دين إيطالي في بولونا، يقول "إن ذهنية هذا الإيطالي تتجلى على أحسن صورة في الحوار التالي، لقد لاحظ بجلاء أني بروتستانتي، لذا بعد اللف والدوران، استفسر مني إن كنت لا أمانع في الإجابة عن بعض الأسئلة، لأنه سمع الكثير من الأشياء الغريبة عن البروتستانت، ويود أن يحصل على معلومات مباشرة من مصدرها الأول آخر المطاف.
-هل حقا إن كنيستكم تأذن لكم بمطارحة فتاة جميلة الغرام من دون الزواج بها؟ هل يأذن قساوستكم بذلك؟
أجبت: إن قساوستنا عقلاء، لا يجشمون أنفسهم عناء التدخل في مثل هذه الأمور الصغيرة، وبالطبع، لو أننا طلبنا منهم الإذن، فلن يوافقوا قط".
فهتف في عجب "وهل حقا إنكم لستم مرغمين على طلب الإذن منهم؟ يا لكم من سعداء، وبما أنكم لا تعترفون أمام الكاهن، فإنه لن يسمع عن ذلك قط".
في باليرمو
سيصل غوته إلى باليرمو، وستفتنه هذه المدينة، وكأنها منحوتة من الجبال التي تحيط بها، يكتب " بادرنا أول ما بادرنا إلى التجوال في المدينة لرؤيتها عن كثب، بعد أن تيسر لنا إدراك صورتها الكلية، دون أن نعرف تفاصيلها. ثمة شارع يمتد ميلا كاملا من البوابة السفلى للمدينة، إلى بوابتها العليا، ويتقاطع هذا الطريق مع شارع آخر بصورة متعامدة، الأمر الذي يسهل العثور على أي موقع اعتمادا على هذين المحورين المتقاطعين.
غير أن الدروب في قلب المدينة متاهة محيرة من التشعبات، لا يجد الغريب طريقه فيها، إلا بمعونة دليل.
قبل المساء، شاهدنا عرض عربات النبلاء باهتمام كبير، فالنبلاء في هذه الساعة من النهار يمضون في عرباتهم إلى الميناء لتنسم الهواء، وتجاذب أطراف الحديث والغزل مع النساء طبعا.
بزغ البدر تاما قبيل ساعتين من مغيب الشمس، مسربلا المساء بهامات المجد. وبسبب الجبال المشرئبة وراء باليرمو، جهة الجنوب، فإن نور الشمس وضوء القمر لا ينعكسان على صفحة المياه في تلك السويعات، ويصطبغ البحر حتى في أسطع النهارات نورا، بلون أزرق داكن قوي متصلب، إن جاز القول، في حين أن البحر في نابولي يميل مع الظهيرة فلاحقا، إلى الهدوء والتلألؤ والامتداد، إن جاز القول".
سياحة وعمل
لم تكن الرحلة الإيطالية لغوته، مجرد رحلة استجمام فقط، فقد اهتبلها للكتابة والتأليف والتخطيط لأعماله المسرحية، يكتب "هناك من ينتظر، في ألمانيا وصول مسرحيتي "إيروين وإيلماير"، وكذلك "كلودين في الفيلا الجميلة"، لكن عملي في مسرحية "إيجمونت"، جعلني أكثر صرامة في معايير الكتابة، بحيث لم يعد بوسعي أن أحمل نفسي على إرسال النصوص، وهي في شكلها الأولي الأصلي.
كنت شغوفا بالكثير مما تحويه من أغان، تشهد على الكثير من سويعات الحمق السعيدة مع ذلك، مثلما تحمل الكثير من الآلام والأحزان التي يتعرض لها الشباب المتسرع الطائش، دوما. لكن الحوار النثري يشبه كثيرا الأوبيريتات الفرنسية.
ورغم أني سأتذكر الأوبيريت الفرنسي بخير، باعتباره أول من يدخل الألحان المبهجة إلى مسرحنا، إلا أنه لم يعد يرضيني. لقد أصبحت مواطنا إيطاليا، فبت أرغب في ربط الأنغام بسرد حماسي ملحون. راجعت كلا الأوبريتين وفق الأساس، فحظينا بعدئذ بشيء من الرواج.
هناك موضة شائعة تجد في تكرار نصوص الأوبرا الإيطالية لبعض العبارات مثلبة كبرى، من دون الإنعام في معنى هذه المكررات. إن هذه العبارات خفيفة وسهلة، وهو ما ينبغي أن نعترف به، وهي لا تفرض على المؤلف أو المغني متطلبات
أكبر مما يميل أي واحد منهما، لأن يعطيه. وابتغاء تجنب التوسع في الموضوعات، أكتفي بذكر نص أوبرا "الزواج السري" إن مؤلف هذا النص مجهول، ولكن أيا كان هو، فقد فاقت براعته كل من عمل في هذا الحقل حتى ذلك الوقت".
لا يفوت غوته، الإشارة إلى بعض الأوبئة الدارجة في زمنه، مثل الجدري، الذي كان يحصد الآلاف، قبل أن يكتشف له علاج، والذي كان يتبع في محاربته أول الأمر، القاعدة الذهبية، وهي الحجر الصحي والعزل في معازل، وفي هذا الإطار يشير إلى وفاة أحد معارفه، وهو رسام فرنسي شاب بالجدري، ثري ومثقف وابن وحيد لأمه، وكان أكثر الفنانين الواعدين ممن يدرسون في روما.
ومن كل ذلك، يصل غوته إلى خلاصة لفنه، وهي العمل بجد وسقي الموهبة وصقلها، يقول "أشعر بالارتياح وأنا أعمل بجد، منتظرا ما سيسفر عنه في المستقبل. أدرك بوضوح أشد، كل يوم، أنني ولدت، لأكون شاعرا، وينبغي لي أن أرعى هذه الموهبة، وأنتج شعرا حسنا خلال السنوات العشر القادمة، فهي كل ما سيتاح لي أن أعمل خلاله. لقد انصرم الزمان الذي أتاحت فيه لي وقدة الشباب أن أنجز الكثير من الأعمال من دون كثير دراسة.
واما الآن، فعندي ثمار مقامي الطويل في روما، لعود إلى تأملها، رغم أن ذلك يفرض علي التخلي عن ممارسة الفنون البصرية".
ويضيف "قدمت لي أنجليكا الثناء بالقول إنها لا تعرف سوى أقل من القليل من الناس في روما ممن يرون الفن خيرا مما أراه. إنني أعرف تماما ما لا أره البتة، وأعرف أين موضعه، لكنني أشعر أنني في تحسن، وأعرف بالضبط ما يتوجب علي فعله حتى أرى بصورة أفضل. كفاني ما قلت. لقد تحققت أمنيتي في أن أكف عن تلمس طريقي كالأعمى في مسألة، تجذبني جذبا جامحا".