ومع انتخاب سليم الجبوري، العربي السني، رئيساً للبرلمان، وفؤاد معصوم، الكردي، رئيساً للعراق، أصبحت الكرة في الملعب الشيعي، الذي يتوجب عليه اختيار المرشح لرئاسة الوزراء، بحسب السياق السياسي المعمول به بعد احتلال العراق في 2003.
وكانت الأزمة الشيعية الكبرى، حتى الأسبوع الماضي، تتمثل في الخلاف بين المكونات الرئيسية في "التحالف الوطني" (الشيعي)، "الأحرار"، بزعامة مقتدى الصدر، و"المواطن" بزعامة عمار الحكيم، من جهة، وائتلاف دولة القانون، بزعامة المالكي من جهة أخرى، حول مفهوم الكتلة الكبرى التي يحق لها إعلان اسم المرشح لرئاسة الوزراء. ولكن، على مدى الايام القليلة الماضية، تسرّبت أنباء تؤكد خروج فصيلين رئيسيين من مكونات ائتلاف المالكي، الذي حصد 95 مقعداً في البرلمان الجديد، وهما كتلة "مستقلون"، بزعامة نائب رئيس الوزراء المنتهية ولايته حسين الشهرستاني، التي تمتلك 33 نائباً، وكتلة "بدر"، بزعامة وزير النقل المنتهية ولايته هادي العامري، وتمتلك 22 نائباً، بسبب عدم موافقتهما على حصول المالكي على ولاية ثالثة.
وأكدت تسريبات من داخل اجتماع للتحالف الوطني، الليلة الماضية، في بيت رئيس التحالف الوطني، إبراهيم الجعفري، نشوب مشادة كلامية بين العامري والشهرستاني من جهة، والمالكي من جهة أخرى، بسبب تشبّث الأخير بمنصب رئاسة الوزراء وتصلّب موقفه، وعلى أثر ذلك غادر المالكي قاعة الاجتماع.
وكانت كتلة "بدر" قد نفت انسحابها من "ائتلاف دولة القانون" في وقت سابق، لكنها أكدت أنها "تحترم رأي المرجعية الدينية في النجف التي دعت الى أن يحظى رئيس الوزراء المقبل بمقبولية كبيرة داخل الأوساط السياسية والشعبية"، ما فسّره البعض بأنها لم تعد تتمسك بالمالكي، رغم ما كانت تصرّح به سابقاً بأنّ علاقتها مع "دولة القانون" هو "زواج كاثوليكي لا طلاق فيه".
وتؤشر تصريحات كتلة بدر حول تمسكها برأي المرجعية الدينية في النجف، بزعامة علي السيستاني، الى تحوّل مهم في موقف "بدر" من الأخيرة. فكما هو معلوم فإن منظمة "بدر" (فيلق بدر سابقاً)، والذي تشكل في إيران إبّان الحرب العراقية ـ الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي وعلى أيدي فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني)، يقلّد روحياً الولي الفقيه في إيران، وليس مرجعية النجف.
وتؤشر هذا التصريحات الى حدوث تقارب في الرؤية بين مرجعيتين دينيتين تنتميان الى مدرستين متناقضتين، إذ ينتمي المرجع السيستاني الى المدرسة الشيعية التقليدية، التي يرتكز منهجها الفكري على عدم جواز تصدي رجال الدين للعمل السياسي في فترة "الغيبة الكبرى" للإمام الثاني عشر لدى الطائفة الشيعية، الإمام المهدي المنتظر. وتدعو هذه المدرسة رجال الدين الى التركيز على إدارة الامور العامة مثل "الأمور الحسبية"، وتقديم النصح والمشورة للحفاظ على الدين ومذهب الطائفة.
وتتناقض هذه المدرسة مع نظرية "ولاية الفقيه" التي طوّرها وطبّقها في إيران مؤسس الجمهورية الاسلامية الايرانية، روح الله خميني، ويطبّقها في الوقت الحاضر خلفه، علي خامنئي، والتي من أهم خصائصها تصدي رجال الدين للأمور السياسية بشكل مباشر. وجاء التوافق في الرؤى السياسية بين مرجعيتي النجف وقم بسبب قلقهما من أن المالكي بدأ يهدد وحدة الصف الشيعي وضمان استمرارية وجوده على رأس السلطة في العراق.
ووجدت المرجعية الدينية في النجف، وبعد ثماني سنوات متلاحقة من حكم المالكي، أنه أصبح من المناسب أن تعلن رأيها صراحة في أدائه. كما جاءت هذه الخطوة من قبلها في سياق تبرئة الذمة بسبب الدور الذي اضطلعت به في تكوين التحالف السياسي الشيعي العريض الذي نجح في احتضان المالكي بُعيد الانتخابات العامة الأخيرة في العراق في 2010.
ودأبت المرجعية في النجف ووكلاؤها، على توجيه انتقادات واضحة لأداء المالكي ونهج حكومته في معالجة الامور، في الأشهر القليلة الماضية، خصوصاً بعد التدهور الأمني الذي شهده العراق وارتفاع أصوات معارضي المالكي. ووصلت انتقادات المرجعية بحق المالكي الى مستويات غير مسبوقة، الأمر الذي دفع حلفاء المالكي الى انتقاد المرجعية بشكل غير مباشر، وهذا أثّر بشكل سلبي على المالكي، بسبب الموقع المعنوي الكبير الذي تملكه مرجعية النجف في الوسط الشعبي والسياسي الشيعي العراقي. كما أن معاداة المرجعية، ستكرس في أذهان القاعدة الشعبية العراقية أن المالكي لم يعد موضع ثقة المرجعية كما في السابق.
الأمر الذي لم يدركه المالكي، أن المواجهة هذه المرة هي مع خصم لا يستهان به، فهو يمتلك مكانة دينية عالية في العراق وخارج العراق، قد تؤثر على المستقبل السياسي الذي يطمح إليه.