تدهمني ذكرى رحيلك، كأن كل صبيحة ثامن من تموز تحمل خبرك العاجل. لم أفلح يوماً في حفظ تاريخ استشهادك ولا التنبّه إلى دنوّه، يدهمني صباحاً كأن ذاك الانفجار وقع قبل لحظات. لا تمر ذكراك بنا، بل تنزل، تنزل بأسئلتها المشرعة عن غسان مثقفاً إنساناً وأدبياً، وعن غسان المشروع، عن "أدب المقاومة".
ببساطة، لن أحدّثك عن "أدب المقاومة"، فأحواله لا تسرّ بعدك، كأنه أصبح لحناً قديماً، مدرسة اتفق الناقضون على تقادمها. في وضوحها شيء يزعجهم، كأن الأدب محض مخاتلة. أدبنا اليوم لا يزعج أحداً، حتى الأعداء. وياه كم يبدو بعيداً زمانك، حيث فوهة القلم كفوهة البندقية، والأعداء يضعون القنبلة في سيارة الشاعر قبل المسؤول العسكري. إسرائيل اليوم لا تخاف كتبنا ولا تمحّص فيها على الحواجز العسكرية ولا تصادرها من البيوت. ألم أقل لك لن أحدثك عن "أدب المقاومة"! سأحدثك عن "المقاومة"، واليوم تحديداً.
إن كان يمكن لنا أن ننسج لأدبك غاية، فهي بحث في قدرة الأدب على تجاوز الواقع، تجاوزه ذهنياً كضرورة أولية لتجاوزه واقعاً، تثبّتاً من إمكانية شق الدرب، حتى يلتقط أحدهم الإمكانية ويبدأ بشقّ دربه فعلاً. هنالك دوماً من يعتقد أن المقولة الممكنة، هي مشروع ممكن، ولأنه يدرك قيمة المقولة يدرك أنها قد تكلّفه حياته.
وإن كان لنا في ذكراك التحلّل من النقد المكبِّل بعدك لطاقة الأدب وقدرته على التأسيس للفعل وقيادته، نجد رسالةً تتحقق في منجزك أدباً وحياةً تدعو إلى رفض التعامل مع الممكن كحقيقة ثابتة، بل كمساحة للاستكشاف والتوسيع. أليس هذا مدخل التجديد في الأدب برمته؟
كأن الفصل بين المقاومة وأدبها غير ممكن ويظلّ الاقتراب منها يستدعيك! سأحدثك عن "المقاومة". وإن اتفقنا أن المقاومة هي بحث في مساحة إمكانية الرفض والمواجهة، فالأمور تسرّك، بل فيها ما قد يقترب من الخيال لو قيس بممكنات لحظة رحيلك. كأن الممكن الذي استكشفته أنت أدباً وتجريداً وجد من يجسّده مشروعاً، ولأننا نخاف عليه نسرف في نقده. أما أنت فسيستدعي منك حكة رأس وضحكة مخبأة بياقة القميص ودخان سجائرك. فمن كان يتخيل أن كل هذا ممكن؟
لا يتوقف هذا الشعب عن العبث بالممكنات. هنالك نطف تهرّب من سجون الاحتلال إلى أرحام زوجات الأسرى، وما هي إلا عدة أشهر حتى يولد فلسطينيون جدد، كأنهم يولدون من العدم. أي حبكة هذه بالله عليك؟! هنالك قرى في النقب، النقب المنسي، تُهدم عشرات المرات وتُبنى عشرات المرات، والخيمة هناك مؤقتة فعلاً، ومنصوبة فوق البيت حتى يُبنى. في الأيام الماضية كانت عند كل مفرق مظاهرة، في الأرض المحتلة سنة 1948، وثمة فتية، أطفال، يحمون القدس هذه الأيام. صحيح أنهم وحدهم كما لم يكونوا من قبل، لكنهم أقرب من أي وقت مضى إلى "أبطال" تخيلاتَهم.
تظنني أبالغ أو أسرّي عنك بعد كل السنوات العجاف، أو أجمّل الذكرى الثانية والأربعين لولادة فراغك بيننا، أو تظنها حيلة أدبية، خيالاً مفرطاً ولسان أمنيات. لا، صدّقني، ولك أن تفسّر الأمر على أي شاكلة تحب، ووفق أي واقعية تناسبك، يكفي أن أهمس في المسافة بيننا لأقول لك: هنالك الآن صاروخ من غزة عائدٌ إلى حيفا.