أعرف أن كثراً كتبوا عنك، سواءً كما يكتب المنهزمون استعادةً لنضال فارسٍ مضى، أو كما يكتب المستفيدون تمسُّحاً في طُهر شِلوٍ من أشلائك التي تناثرت على أرض بيروت ذات غيلة.
ماذا علي أن أقول حتى أستخلص صورتك البديعة من خاطري المرهق، وأسقطها على ورقة؟
أحتاجُ إلى بصيصٍ من عمى حتى أستطيع أن أرى في الموتِ غير الموت. لكنني أريد أن أتوخّى وجهك هنا خالصاً دون أية شائبةٍ. هل عليَّ استعارة مشرطٍ لأشرِّح ما بقيَ من أعمالك كيفما اتفق لذائقتي القاصرة؟ أم عليَّ أن أنفث كل ما عَلِق بنفسي من سواد العالم في شكوى طويلة أُرهق بها روحك التي أؤمن أنها تنظر إلينا الآن بعيونٍ عارفة؟
اخترتُ أن أعانق صورتك في كلامك: "حياتي كلها كانت سلسلة من الرفض، ولذلك استطعتُ أن أعيش. رفضتُ المدرسة، ورفضتُ الثورة، ورفضتُ الخضوع، ورفضتُ القبول بالأشياء".
"حاولتُ منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل، ثم بالعائلة، ثم بالكلمة، ثم بالعنف، ثم بالمرأة، وكان دائماً يعوزني الانتساب الحقيقي؛ ذلك الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح: لك شيء في هذا العالم فقم.. أعرفته؟".
"كان الاحتيال يتهاوى؛ فقد كنتُ أريد أرضاً ثابتة أقفُ فوقها، ونحن نستطيع أن نخدع كل شيء كان عدا أقدامنا، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشة معلَّقة بالهواء".
"سأظل أناضل لاسترجاع الوطن لأنه حقي وماضيّ ومستقبلي الوحيد… لأن لي فيه شجرة وغيمة وظلّاً وشمساً تتوقّد وغيوماً تمطر الخصب… وجذوراً تستعصي على القلع".
لحبيبتك البعيدة: "لا أريد أن أنسى . ليس بوسعي أن أطمر الزهرة الوحيدة في عمري هكذا، لمجرد أنك ذهبت، وأنّ أملي في أن ألقاك هو مثل أملي في أن ألقى طفولتي.
فيا أيتها الطليقة التي حملها جناحاها إلى أرض لا أعرفها، والتي كان علي منذ البدء أن أعرف بأنها، مثل العصافير، ستضرب في فراغ السماء وجاذبية المدى الذي لا يحدّه حد، لست أطمع منك بالعودة. لقد رفّ جناحاك في زنزانتي وتركا في هوائها الساكن شيئاً يشبه خفق القلب، زرعاً في صمتها خفقة طليقة وتركاها تغطس في وحدتها المرة.
لست أطمع منك بالعودة، فالعصافير لا تسكن أعشاشها مرتين، وحين نفضت عن ريشك كسل القرار عرفت أنا أنك لن تعودي..
ولكن كيف تركتك تذهبين؟ كيف لم أربط نفسي إليك مثلما ربط السندباد نفسه إلى ريش الرخ؟
ليس عندي، أيتها الطليقة ، يا خبزي ومائي وهوائي، إلا الندم ، وبعيداً في قراره توجد بذرة للشجرة القادمة".
عن نهاية قصة حبك: "لقد استسلمنا للعلاقة بصورتها الفاجعة والحلوة، ومصيرها المعتم والمضيء. وتبادلنا خطأ الجبن: أما أنا فقد كنت جباناً في سبيل غيري، لم أكن أريد أن أطوح بالفضاء بطفلين وامرأة لم يسيؤوا إليّ قط، مثلما طوح بي العالم القاسي قبل عشرين سنة، أما أنت فقد كان كل ما يهمك نفسك فقط".
عن زوجتك: "كانت يا فائزة بعيدة عني في كل شيء. واحتجت إلى خمس سنوات كبيرة أظل مشغولاً خلالها في ردم الهوة المفتوحة بيننا، وارتكبت مرة أخرى خطأ الاحتيال: فحين عجزت عن ردمها كما ينبغي ردمتها بطفلين.
ولكنني رغم كل شيء ظللت مخلصاً للقيم التي أحترمها والتي أورثني إياها إقطاع جدي المؤمن بالفضائل حين خسر أراضيه ولكنه أصر على كسب أخلاقه، وكنت أعرف في أعماقي أن الشراع المطوي في أعماقي سيمتلئ برياح الغربة من جديد ولكنني ظللت صامداً، وبقسوة السكين تخليت عن حياتي السابقة في سبيلها، كانت وما تزال امرأة رائعة، ربما الشيء الوحيد في هذا الكون الذي أستطيع برضى لا حدود له، أن أقدم لها حياتي إذا ما تعرضت لخطر الغياب.
أقول لك ذلك الآن رغم أنك سألتني ذات يوم وكنا وحدنا: هل أنت سعيد معها؟ فقلت لك حاسماً وصادقاً: لا. إن الحب شيء وعلاقتي بها شيء آخر، وهي تعرف".
عن الحياة: "إن الدنيا عجيبة وكذلك الأقدار. إن يداً وحشيةً قد خلطت الأشياء في المساء خلطاً رهيباً فجعلتْ نهايات الأمور بداياتها والبدايات نهايات، ولكن قولي لي: ماذا يستحق ألا نخسره في هذه الحياة العابرة ؟! إننا في نهاية المطاف سنموت!".