غزة واستراتيجية فلسطينية غائبة
لم تمض سوى أشهر قليلة على نهاية الحرب الإسرائيلية التدميرية على قطاع غزة، وفي الوقت الذي لا يزال فيه فلسطينيو القطاع يحاولون لملمة جروحهم العميقة، وخصوصاً مع بقاء، بل إحكام الحصار عليهم، بحراً وبراً وجواً، ومن كل الاتجاهات، إلا وقد بدأت طبول الحرب الآتية تدق، وبشكل سريع، ومن معظم أطياف الخارطة السياسية والأمنية العسكرية الإسرائيلية، وكأن قدر الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أن يستمر في دفع فواتير المزايدات والإخفاقات الإسرائيلية من جهة، ومن تراجع الحالة الفلسطينية، والعربية عموماً. في ظل ما تشهده الساحة الفلسطينية من انقسام وتراجع، وانهيار للحالة الوطنية في شتى المناحي، وفي ظل تفكك معظم الدول العربية، ودخولها في أتون الصراعات الداخلية المدمرة، والتي أدت، فيما أدت، إلى تراجع الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية، وعدم التعامل مع إسرائيل على أنها العدو المركزي للأمة العربية جمعاء، بل إن بعض الدول العربية أصبحت تتعامل مع إسرائيل على أنها شريكة، وبحاجة إليها، لمساندتها في ما يسمى حربها على الإرهاب، للإبقاء على تلك الأنظمة العربية.
تحاول إسرائيل تثبيت قواعد للتعامل مع شطري الوطن الفلسطيني، مبنية على استراتيجية الحروب والتدمير والحصار والتجويع على غزة، بحجة وجود بنية عسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي من أسلحة وصواريخ وأنفاق وغيرها. وفي المقابل، تتعامل مع الضفة الغربية بالحصار وحجز الأموال والاستيطان والتهويد والضم والطرق الالتفافية والجدران، والتي ستؤدي، في النهاية، إلى محاصرة كل التجمعات الفلسطينية في الضفة وتطويقها، وتحويلها جزراً متناثرة، وغير مترابطة، وسط بحر من السيطرة الإسرائيلية الكاملة، استيطانياً وعسكرياً، الأمر الذي سيمنع أي إمكانية للتوصل إلى أية حلول مستقبلية، وبشكل نهائي.
تريد إسرائيل، في تلك الاستراتيجية، إيصال رسالة مزدوجة للشعب الفلسطيني وفصائله وقواه. أما الأولى، فهي أن مقاومة فصائله من غزة، وتأييدهم لها، ستؤدي بهم إلى استمرار الحروب والحرائق والقتل والتدمير والمبيت في العراء تحت أشعة شمس صيف قطاع غزة، وتحت أمطار شتائها سنوات طويلة. والرسالة الثانية أن المفاوضات والتنسيق الأمني في الضفة ستؤدي إلى مزيد من الاستيطان والتهويد واستباحة الأرض والسماء والهواء والمقدسات، واستمرار عمليات الملاحقة والاعتقال، في ظل وجود سلطة فلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي الكامل، ولا حول ولا قوة لها. وبالتالي، إيصال الشعب الفلسطيني إلى حالة من اليأس والإحباط، سواء من الأداء المقاوم في غزة، أو من الأداء السياسي التفاوضي في الضفة. وحينها، تعتقد إسرائيل أن الشعب الفلسطيني سينهار وسيتفكك وسيتحطم من الداخل، وسيقبل ما تفرضه عليه إسرائيل على أنها القوة الوحيدة القادرة على فرض مشروعها وتنفيذه.
لم يكن في وسع إسرائيل أن تواصل سياساتها، لولا حالة الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس، وعدم وجود استراتيجية وطنية شاملة، تجمع بين العملين، الدبلوماسي والكفاحي، بشتى أشكاله، ومن دون أي استثناءات، وأن تكون الضفة الغربية وقطاع غزة ساحة مواجهة شاملة وموحدة ضد إسرائيل، تحت قيادة موحدة للشعب الفلسطيني .فمقاومة غزة الأسطورية والبطولية وحدها لن تكون كافية لردع إسرائيل، كما أن دبلوماسية السلطة لن توقف هذه الجرائم الإسرائيلية، ما لم يتم بناء استراتيجية فلسطينية وطنية شاملة، ضمن برنامج سياسي كفاحي وحدوي.