غرفة الفئران في العصر الحديث

10 سبتمبر 2016
+ الخط -
قديماً، كان الآباء يستخدمون أساليب سيئة في التربية، وهي الأساليب التي أنتجت أجيالاً مشوهة نفسياً، تعيش في الخرافات والأوهام والخوف من المجهول. أساليب أثبتت علوم التنشئة الحديثة أنها كانت تنتج أجيالاً فاقدة القدرة على التفكير المنطقي أو الإبداع أو إعمال العقل عموما. خرافات عديدة تغرق فيها مجتمعاتنا، أولها وأبسطها، على سبيل المثال، هي القصص المفزعة التي كان يرويها الآباء للأطفال، بهدف ترهيبهم وضمان طاعة الأوامر والتعليمات وعدم الخروج عن الخط الذي يرسمونه. وكانوا يختارون أسماء عجيبة ومضحكة، لكنها تكون مرعبة لدى الأطفال. وتختلف الشخصيات والقصص المخيفة من قرية إلى قرية، ومن محافظةٍ إلى محافظة، ومن دولة إلى دولة، ومن جيل إلى جيل، فأتذكّر عندما كنت طفلاً قصصاً مخيفةً عمّا يسمى "البوبع" أو "البعبع"، أو العفريت، الذي يظهر للطفل الذي لا يطيع والديه، وعرفت من أصدقاء وزملاء فيما بعد، وأصبحنا نتضاحك على تلك القصص الساذجة، أن هناك أسماء أخرى، مثل "أبو رجل مسلوخة" و"أبو شوال" الذين يخطفون الأطفال، إذا لعبوا في الشارع من دون إذن الآباء. حتى المدارس لم تسلم من تلك الطرق العقيمة في التربية، ففي بعضها كانت غرفة وهمية يكفي ذكر اسمها، ليبدأ الأطفال في البكاء والارتعاد خوفاً، يطلق عليها اسم "غرفة الفئران"، فيها فئران يأكلون الأطفال الذين يرفضون طاعة أوامر المدرس.
ولعل واقعنا الذي نعيشه الآن في مصر والمنطقة خير دليل على وجود كوارث في منظومة (وعادات) التربية والتعليم، التي نتوارثها جيلاً بعد جيل. ولذلك، لا عجب في ذلك الحال المخزي والمؤسف والمحزن والمزمن، لا عجب في أن تكون شعوبنا لا تحترم الوقت، ولا تحترم العلم، ولا تحترم التخطيط ولا التفكير المنطقي.
ولأن الأنظمة الحاكمة في مصر والمنطقة منذ زمن طويل تعتمد على فكرة السلطة الأبوية في الحكم، فليس لدينا رؤساء يتم انتخابهم، ليعملوا على إدارة الدولة، طبقا لبرنامجٍ واضحٍ معلن مسبقاً، ليتركوا الحكم بعد فترة قد ينجحون فيها أو يخفقون، مثل أي بشر، بل لدينا أنصاف آلهة، الأب الأعظم الخالد، أو الأب كبير العائلة، أو الأب ربان السفينة أو الأب شيخ المسجد، أو الأب المنقذ. ولذلك، لا بد من أن تكون هناك فزّاعة، حتى يستطيع السيطرة على تفكير الأطفال، وضمان عدم خروجهم عن طوعه.
قديماً، كان الآباء يستخدمون خرافات البعبع، أو أبو رجل مسلوخة وحجرة الفئران. والآن،
أصبح الزعماء الآباء يستخدمون خرافاتٍ متشابهة لتخويف الشعوب، فدائماً الرئيس، وكل من حوله في السلطة يعلمون كل شيء وكل الحقائق. ولذلك، يعتبرون أن الشعب قاصر، لو نال حرية الاختيار وتقرير المصير سوف يختار اختياراتٍ سيئة، ولأن الرئيس هو الدولة، وليس موظفاً منتخباً يدير الدولة، فلا بد من فراغات وخرافات لضمان السيطرة والولاء .
اليوم أصبحت هناك حكايات أسطورية خرافية جديدة، مثل أساطير حروب الجيل الرابع ومخطط التقسيم والمؤامرات الكونية ضد الزعيم المنقذ و"سايكس بيكو" الجديدة. إنه المنطق نفسه في الإرهاب والتخويف من المجهول واختراع الأساطير والقصص المرعبة، من أجل خداع الأطفال غير مكتملي النضج.
ولكن، بقليل من القراءة، ومع الابتعاد عن خرافات الإعلام الموجه الذي لم يخرج بعد من مرحلة الخمسينيات والستينيات، نكتشف أن "سايكس بيكو" الأولى نفسها لم تكن اتفاقاً بين قوى عظمى لتقسيم الدول العربية، ووضع حدود بينهما، بل كانت اتفاقاً بين الدول المنتصرة وزعماء وأمراء عرب ساعدوا تلك القوى على هزيمة الإمبراطورية العثمانية. فقبل مائة عام، لم تكن هناك دول عربية من الأساس في منطقة الخليج العربي، بل كانت ولايات عثمانية، ولم تكن هناك حدود متعارف عليها بين تلك الدول. قبل مائة عام، لم تكن هناك دول يطلق عليها سورية أو العراق أو لبنان أو الأردن، وقبل 80 عاماً لم تكن هناك السعودية ولا الكويت ولا الإمارات ولا قطر. كان هناك مشروع لدولة عربية كبرى قائمة على القومية العربية الوليدة المضادة للقومية التركية، لكن الطمع والاقتتال بين الأمراء العرب هو الذي فتت هذا المشروع إلى دول وإمارات وممالك، تم إنشاؤها بناءً على رغبة الأقوى في ذلك الوقت. وربما هذا يفسر هذا التناقض والصراعات المذهبية والطائفية التي في سورية والعراق ولبنان. ولعل هذا ما يفسر لماذا تم تجاهل القومية الكردية، التي لم تكن لها أية قوة أو وجود في هذه الأيام.
ومن يقرأ التاريخ العربي والإسلامي المليء بالمؤامرات والدموية، يكتشف أن العنف والتطرف لم يهبطا من السماء، بل هي أشياء متأصلة لها جذور راسخة، بل إن معدل العنف والدموية في المنطقة هذه الأيام يقل عشرات المرات عن معدل العنف والدموية في القرون الماضية.
يحدثونك عن الدور الأميركي في دعم مجموعات مسلحة في سورية. ولكن، لكي تكتمل خرافة أن داعش صناعة أميركية لا بد من تجاهل حقائق أخرى، مثل أدوار روسيا وإيران والسعودية والإمارات في دعم فصائل متطرفة مسلحة.
ويستغرق بعض رجال السلطة والأجهزة الأمنية في نظرية المؤامرة، ويحدثك بمنتهى الثقة عن
أن تفكك الاتحاد السوفييتي كان مؤامرة غربية، وأن غورباتشوف كان عميلا أميركياً.. متجاهلين المشكلات التي كانت موجودة في الكيان منذ بدايته، سواء في النظرية أو التطبيق أو النزاعات القومية التي كانت موجودة في قومياتٍ متنافرةٍ، ثم تم ضمها للكيان بالقوة والقمع والحديد والنار. أخشى يوماً أن نجد أحدهم يفسر انهيار الإمبراطورية القديمة وتفككها بأنها كانت مؤامرات أميركية أو غربية ضد الدولة البيزنطية مثلاً، أو الإمبراطورية الرومانية قبلها أو الفارسية، وهي الأحداث التي أدت إلى تغير خرائط العالم، وإعادة تقسيمه مرة أخرى إلى دول وممالك وقوى جديدة، وهو ما يحدث في العالم كل فترة من دون الحاجة إلى المؤامرات الكونية الكبرى. وكثيرا ما تكون أسباب انهيار الإمبراطوريات والدول داخلية، أو أخطاء داخلية أكثر منها أن تكون ناتجة عن عوامل وأسباب خارجية، أسباب وعوامل قد تكون متكرّرة على مر العصور، مثل احتكار السلطة واحتكار الثروة وشيوع الظلم والفساد والاستبداد.. والأسوأ هو العناد والإصرار على الخطأ.
وما أسهل تفسير الفشل الإداري بنظريات المؤامرة، وخرافات حروب الجيل الرابع، واستخدام الفزاعات، للتخويف من مخطط التقسيم، وغرفة الفئران بدلاً من الدراسة العلمية للظواهر والمشكلات وتحليل أسبابها، ثم اقتراح حلولٍ على أساس علمي، ثم خطط عملية قابلة للتطبيق .
ولكن التفكير الأمني هو الغالب والحل الأمني هو المطبق، وإن ازدحمت السجون بالمعارضين للتخبط والفشل. وإن ازدادت المظالم وازدادت القطاعات الغاضبة أو المعترضة، فلا مشكلة من بناء سجون جديدة لاستيعاب كل الغاضبين وذويهم، وكل من يحتمل أن يغضب أو يعترض مستقبلاً إلى أن تأتي اللحظة المتكرّرة.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017