غراتس.. مدينة السحر والجمال

26 أكتوبر 2019
+ الخط -
"غراتس"، ثاني أكبر مدن النمسا بعد فيينا، عاصمة ولاية "اشتاير مارك". مدينة جميلة تقع على ضفتَي نهر "مور"، حيث تتميز بالغابات الكثيفة، كباقي المدن النمساوية، كذلك فإنها تُعَدّ أحد مواقع التراث العالمي في قائمة اليونسكو؛ لأنّها من المدن القديمة التي تحوي معالم تاريخية وأثرية مثل: القلاع، والقصور، والمتاحف، والمباني التاريخية، والجزر السياحية، فضلاً عن أنها مدينة تعليمية بامتياز، لوجود ستّ جامعات وأكثر من خمسين ألف طالب يدرسون على مقاعدها، وتصل مساحتها إلى أكثر من 127 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها، حسب آخر إحصائية نحو 300 ألف نسمة.

تحيط بمدينة "غراتس" الجبال من كل الجوانب، وتكثر في محيطها الخارجي الشلالات الكثيرة، والمغارات والكهوف، التي يتوجه إليها السيّاح بكثرة، ومنها مغارة "لور". وفي هذه المغارة الماء يقطر من سقفها باستمرار، من دون أن تنهار. 

تبهجك "غراتس" بطبيعتها الساحرة الجميلة، وتشتهر بمزارع العنب والشراب الأحمر، وقد اشتركت في مسابقات عالمية لعالم الشراب الأحمر، وهناك نوعية خاصة لشراب "شتايا ماركي" ويُسمى "الشيلخر"، فضلاً عن الكنائس والجوامع والكاتدرائيات والمعابد اليهودية والبوذية التي تكثر في هذه المدينة.

وتحتوي المدينة على عدد من القصور الضخمة، الساحات الجميلة التي يتمركز فيها الفن والرقص، بالإضافة إلى الأزقّة الضيّقة المختفية عن الأنظار.

أحواش وفناءات رومانسية، وسقوف بطابوق أحمر تاريخي. المصمّمون الإيطاليون عاشوا مئات الأعوام في هذه المدينة، وقمّة أعمالهم ما زالت حتى اليوم تفاخر بها مدينة "غراتس".

المعمار القوطي، وأسلوب عصر النهضة والباروك، في كل المراحل والفترات الزمنية، كانت السبب في أن تكون المدينة القديمة في "غراتس"، قلب أوروبا وارث الثقافة والإنسانية، ويلقب الكثيرون هذه المدينة بنبع الجمال والرومانسية والثقافة، وتضمّ "غراتس"، بين ثناياها الأماكن التاريخية والتصميم الفنّي، ولهذا سُميت مدينة التصميم.

تحيط بمدينة "غراتس" الغابات المشجّرة وجبال الألب النمساوية، وتقدم المدينة الساحرة والعالمية ساحات عصر النهضة الجميلة، والفن المعماري المتنوّع، والبلدة القديمة الرائعة، بالإضافة إلى نهر "مور" الذي يمرّ في قلب المدينة.

ويظهر تاريخ فن العمارة الرائع في "غراتس" من خلال البلدة القديمة، التي تضمّ الشوارع المرصوفة بالحجارة، وأسطح المنازل الحمراء، ومنازل العصور الوسطى، وبرج الساعة الشهير، وكونستهاوس غراتس، ودار الأوبرا، والقلعة التي ترجع إلى القرن الخامس عشر.

تمتلك مدينة "غراتس" العديد من المناطق الترفيهية الشهيرة، وعلى وجه الخصوص ساحة "هاوبت بلاتس" الشهيرة، التي يتوافر فيها العديد من المقاهي والبارات والمطاعم والمتاجر.

تعجّ المدينة بعددٍ كبير من الطلاب نتيجة لوجود العديد من الجامعات، ما يجعلها مدينة للحياة الليلية الصاخبة، ومركزاً فنياً رائعاً، ويوجد فيها العديد من المتاحف الممتعة، ومنها "ألتي غاليري".

وهناك خيارات عديدة لأماكن الإقامة في وحول "غراتس"، ويوفّر كل من مطار تاليرهوف، ومحطّة باهنهوف وسائل مواصلات للعديد من المدن الأوروبية الرئيسية مثل: فيينا ولوبلين وزغرب وميونخ.

لقد كانت "غراتس" مكاناً لإقامة الإمبراطورية النمساوية، ويلاحظ السائح والزائر، أو النمساوي من خلال وجود قصر البرج، حيث كان محل إقامة القيصر النمساوي، وكذلك الكاتدرائية الغوتية، وضريح القيصر "فرديناند" الثاني، ويعد ضريح المدينة "تاج القيصرية"، وقصر المقاطعة وفنائه الجميل بأسلوب عصر النهضة، وأعمدته الجميلة التي تملأ الفناء، وبجنبه متحف الدروع، الذي يُعد أكبر متحف للدروع والأسلحة الحربية في أوروبا، والبعض يقول إنه ثاني أكبر متحف للدروع في العالم، ويحتوي على أكثر من 40 ألف قطعة حربية من العصور الوسطى، مع وجود قصر "ايككين بيرك" الذي يضم عدّة غاليريات، ومتاحف بين ثناياه، ما يمنح المدينة جمالية كبيرة بمتنزهه الكبير، ولهذا ضُمّ إلى قوائم سجلات إرث الإنسانية العالمي اليونيسكو.

مركز ثقل "غراتس" وجود جبل القصر في مركز المدينة، الذي يُعَدّ تاريخاً تحتفظ به المدينة لنفسها في مقاومة "نابليون بونابرت"، ورمز الرومانسية في الوقت نفسه.

ونظرة من فوق الجبل إلى المدينة، وعمقها الرائع، يمنح الإنسان هدوءاً وطمأنيةً، وتظل الروح كتاباً مفتوحاً كي يسطّر الإنسان أجمل الكلمات فيها، لما تحمله النظرة من متعة.

ويعد الجبل لـ "الغراتسيين"، أهم قلعة على طول الأزمنة، ولم يقدر أحد أن يغزوه، وأما برج الساعة، الذي يقع على الجبل، فهو نقطة دالة للجبل، ولقد تفنّن به المعماريون، ويمكن رؤيته من كل أجزاء المدينة، وعلى قمّة الجبل حيث المسارح والمقاهي والمطاعم الفاخرة.

تتنوّع المهرجانات والبرامج الموسيقية والفنيّة السنوية في هذه المدينة، وتكون نقطة التقاء الثقافات، وتحيا المدينة بثقافات أوروبا المختلفة، وبأنشطة حيوية وبرامج مكثّفة.

ومنذ عام 2003 حين كانت المدينة عاصمة للثقافة الأوروبية، حافظت على قوّة تدفّقها الفنّي، وغزارة مهرجاناتها المتنوّعة، لغاية يومنا، وكأن المدينة عاصمة الثقافة الأوروبية إلى الأبد. ومن خلال مهرجاناتها الفنيّة غدت المدينة قبلة للسياحة والسيّاح من جميع أنحاء أوروبا والعالم.

في الأيام الساخنة من العام تستحيل المدينة إلى خشبة مسرح كبيرة، وعليها تمثّل الحياة بصورها المختلفة، وعلى الهواء الطلق، عبر مهرجان مسرح الشوارع، وهو مهرجان عالمي لمسرح الشوارع، وألعاب الدمى، وأما مهرجان موسيقى الجاز، فيعرضُ على خشبات كبيرة، وفي الساحات الرئيسية ومهرجان "ستيريا ارت"، ويُعَدّ من أشهر المهرجانات الكلاسيكية للناطقين بالألمانية على شكل أعمال أوبرا كلاسيكية، و"كونسيرتات" موسيقية.

وأما من ناحية التسوّق، فقد غدت المدينة في السنوات الأخيرة، بعد أن أصبحت مدينة التصميم الفنّي، قبلة أنظار السيّاح والزوّار في التسوّق، وفيها تتوافر أنواع مختلفة من ماركات الساعات العالمية، وأدوات الزينة، وأما المطاعم النمساوية في "غراتس"، فلها شهرتها، والمطبخ النمساوي يتمتّع بشهر كبيرة، أيضاً، في أوروبا.

وفي عام 1999 أُدرجَت المدينة القديمة التي تضمّ بدورها أزقّة ضيّقة، وفناءات رائعة، وبيوتاً قديمة ذات فن معماري رائع، ضمن قوائم اليونسكو، كإرث إنساني للتراث العالمي.

الثقافة والفن والمهرجانات العالمية، تحتلّ مكانةً كبيرة في حاضر المدينة، حيث دار الأوبرا، ودار المسرح الوطني، بجانب العدد الكبير من المتاحف، والغاليريات والمعارض والمهرجانات السينمائية، ومنها مهرجان أفلام الجبال العالمي الذي يرأسه متسلّق الجبال العالمي "روبرت شاور"، ومهرجان الفيلم النمساوي.

وتُعَدّ "غراتس" بالنسبة إلى الكثيرين منبعاً للسحر والجمال، وتشتهر بجبل القصر، وبرج الساعة المشيّد فوق الجبل، حيث يحتلان مكانة كبيرة عند السيّاح وتاريخ المدينة. وهذا الجبل لا يبعد عن الساحة الرئيسية للمدينة وقلبها، دقائق معدودة مشياً على الأقدام. ومنذ العقد العاشر يُعد هذا الجبل ذا أهمية كبيرة لأهالي "غراتس" في السلم والحرب. 

وفي عام 1809 وقف الجبل سداً منيعاً أمام قوّات نابليون بونابرت لحين توقيع معاهدة سلام مع النمسا في قصر "شونين برون" في فيينا. ولهذا الجبل حكايات كثيرة مع النمساويين خلال الحرب العالمية الأولى والثانية. 

والآن تستمر الحكايات، ولكن مع الثقافة والأدب والسياحة، حيث شيّد داخل أروقة الجبل الداخلية صالة كبيرة للحفلات والندوات الثقافية، وتضمّ أكثر من 600 شخص. وأما سلالم الجبل، ففيها الكثير من صور البهاء والإعجاز.

رحلة إلى قمّة الجبل، أو أنفاقه وممراته، الذي يُعد لؤلؤة المدينة، وأحد أبرز المعالم الحضارية والتاريخية التي تترك انطباعاً مبهجاً عند زائره.

 الصعود إلى الجبل يمكن عبر التلفريك الذي يتسلّق الصخور الانحدارية، ويُعَدّ بانوراما جميلة لمشاهدة المدينة. وقد شيّد هذا التلفريك عام 1894، والكثير من الزوّار يَخشى السفر به لقوة انحدار الجبل!

ويمكن السفر بالمصعد من قلب الجبل إلى برج الساعة، وفرصة لمشاهدة الأنفاق الجبلية. أما عشّاق التسلّق والمشي والرياضة، فهناك السلالم الحجرية وعددها 260 سلماً. وعلى قمّة الجبل، حيث الحدائق الجميلة والمطاعم، ورؤية المدينة وكل جهاتها، وتقع المدينة بين جبال شاهقة ومناظر خلّابة، ومشاهدة السطوح الحمراء، وأحواش غراتس التاريخية. والحركة على الجبل لا تتوقف على مدار السنة.

وفي ليالي رأس السنة، حيث يجتمع أهالي "غراتس" على قمّة الجبل لمشاهدة تغيير السنة، وسط الأهازيج والأغاني. 

رحلة إلى قمّة الجبل تعد رحلة إلى عمق التاريخ الإنساني والإمبراطوريات والحروب والسفر إلى قلب الطبيعة الجميلة في "غراتس" النمساوية.

جزيرة "مور" الفولاذية، مشروع كبير بُنيَ بمناسبة استقبال غراتس النمساوية عامها 2003 كعاصمة ثقافية لأوروبا.

والهدف من بنائه جذب الزوار من النمسا وأوروبا والعالم. وتعد هذه التحفة من أعمال الفن الحديث، ويقع في وسط نهر "مور" العنيف.

صمم هذه الجزيرة الفنّان والمصمم الأميركي "فيتو اسونسي" على شكل قوقعة مفتوحة من الأعلى وجوانب زجاجية. وفي جانب من الجزيرة في الوسط هناك المدرجات لمشاهدة العروض والحفلات. ويربطها بجانبي النهر جسران طويلان. 

وفي زاوية أخرى مقهى مغلق على الأسلوب الحديث، وجوانبه زجاجية. وهذه الجزيرة أعادت الحياة إلى غراتس، ونهر "مور" والثقة به بعد أن كان مهملاً لكثرة تلوثه، وصار يسمع صوت الماء كشلال متدفق.

نهر "مور" يقسم "غراتس" إلى قسمين. وقد حُفرَت أساسات عميقة كي تثبت الجزيرة الفولاذية. ويقول علماء التكنولوجيا في جامعة "غراتس" إنه قد تُحفَظ هذه الجزيرة في الماء لعقود.

جزيرة "مور" طولها 50 متراً، وعرضها 12 متراً، ومعلّقة بجسرين. وهكذا يمكنها أن تسع 300 شخص، وتقع الجزيرة بين جبل القصر وساحة كاتدرائية مينو ريتن. في هذه الساحة، يُقام المهرجان السنوي للموسيقى العالمية للجاز في الشهر الثامن.

في "غراتس" تمتزج اللحظات بجمالية المكان، وفن العمارة والبنايات الملوّنة وضحك الأطفال تحت سماء صافية، وموسيقى الشوارع من جنسيات متعدّدة في بلاد تعشق الإبداع.

و"جسـر العشّـاق" فـــي "غراتس" يكاد يهوي في نهر "مور" العنيف. الأقفال التي تعاهد العشّاق الــذيــن يــأتــون إلى مدينة الفن والجمال، من كل حدب وصــــوب، وهـــم يعلّقونها، على أن يــظــل عشقهم خالداً لا يموت. خالداً مثل خلود نهر "مور" الذي تسير مياهه تحت الجسر، تهدّد الجسر المعلّق به أقفال الحب بــالــســقــوط فـــي النهر. 

الأقفال الــتــي ضــاقــت بــهــا شبابيك الجسر، والتي صدأ بعضها، وتكسّر البعض الأخر، وأمّحت أســمــاء العشّاق الــذيــن كانوا فـــوقـــهـــا، أو أمّحت أسماء بعضهم.

هذه الأقفال حوّلت الجسر إلــى كتلة من الحديد والــنــحــاس، بينما غـــادر أصحابها إلـــى مــدنــهــم وعــواملــهــم وهــمــومــهــم اليومية.

الكثير رحلوا إلى العالم الآخر. إنّه الحب، ولا شيء أفضل من الحب.

تلمع في الأفق أقفالهم المرسومة عليها أسماء وقلوب حب تعبّر عن عاشقَين مرّا في هذه المدينة. 

وليس من النادر أن تجد بين العشاق عشاقاً عرباً، وبين الكلمات اللاتينية والصينية واليابانية وغيرها كلمات من لغة الضاد الجميلة.

تلك الممارسات باتت تعبيراً عن وجه رومانسي آخر لمدينة "غراتس" النمساوية.

دلالات
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.