غداء عائلي لبورجيلي: عفنُ بلدٍ

22 أكتوبر 2018
من "غداء العيد" للوسيان بورجيلي (فيسبوك)
+ الخط -
يعكس "غداء العيد" (2017)، الروائي الطويل الأول للّبناني لوسيان بورجيلي، شيئًا من واقع لبناني مُقيم في خرابه، في الاجتماع والعلاقات والسلوك. يتشكّل الانعكاس من أفراد عائلة واحدة يلتقون معًا على طاولة الغداء في ساعات قليلة، ستكون كافية كي تقول بعض أسوأ ما في البلد وناسه، وبعض أسوأ ما في كلّ واحد منهم أيضًا. عائلة تتكوّن من والدين وأبنائهما وأحفادهما. تتشعّب هذه الأجيال على اهتمامات وأمزجة تختلف من جيل إلى آخر. الأسئلة المطروحة في حواراتهم، وبعضها متوتر لكنه مضبوط بشيء من كوميديا انتقادية وسخرية مُضحكة، كثيرة: الهجرة، العمل في الخليج، أحوال البلد في السياسة والاقتصاد والاجتماع، الانعزال الطائفي الديني، العنصرية والتباهي. أسئلة مطروحة بسلاسة تنبض بها حياة يومية في بلدٍ ممزّق ومنهار.

هذا حاضرٌ في نصفين اثنين يتكامل بهما "غداء العيد"، المُشارك في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الـ8 (5 ـ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية" في السويد. النصف الأول يُقدِّم الشخصيات ومواقعها واهتماماتها وهواجسها بحوارات صاخبة ومرتبكة ومتوترة، بينما الكاميرا تلتقط تحلّقهم حول الطاولة باهتزازات متلاحقة أو بتقطيع يُغيِّب أحدهم أثناء كلامه، وبمواربة تبدو كأنها تحتال على اللقطة كي تقتنص منها ما يُلائم المناخ العام لتلك العائلة الذاهبة، بهدوء، إلى تفكّكها وانهيارها، وهذان أمران يحدثان في النصف الثاني، الذي تتبدّل فيه الأمور كلّيًا إلى درجة التناقض، بل إنّ التبدّل في السياق الدرامي سيكون كشفًا للمخبّأ في كل واحد من هؤلاء.

وإذْ يتمتّع النصف الأول بشيء من الكوميديا الساخرة والانتقادية، فإنّ النصف الثاني منتقلٌ إلى الدراما العائلية، التي تكشف قسوةَ تصرّفٍ، وعنفَ كلامٍ، وسقوط الأقنعة عن وجوه الجميع، باستثناء الأب الذي يغيب عن المشهد طوال النصف الثاني كلّه تقريبًا، قبل أن تُنهي عودته الضجيج المعتمِل في غرف المنزل، كما في النفوس والعلاقات.

فيلمٌ يُقرأ خارج الكوميديا كلّيًا، رغم الأجواء الانتقادية الساخرة من أحوال بلدٍ مقيم في عنصريته وفساد سياسييه وانهيار أسسه الاجتماعية والاقتصادية وعزلاته الطائفية المذهبية. لكن نصفه الأول مُعبّأ بصُور ملتقطة من أحوال أفراد يُقيمون في مجتمع يتخبّط بأنانيته وانغلاق تفكيره على ثقافة مقيّدة بتربية وسلوك طائفيين مذهبيين، يُحدّدان كلّ شيء وفقًا لانتماء طائفي مذهبي ضيّق. ذلك أن اللقاء العائلي على طاولة الغداء يوم عيد الفصح لدى الطوائف الشرقية يُشكِّل حالة سينمائية تغرف من انهيار البلد وأحواله، ما ينمّي حساسية الفيلم إزاء مصائب عامّة يعانيها الفرد اللبناني يوميًا، من دون مواجهتها جماعيًا بالانقلاب على صانعيها المتحكّمين بالبلد وناسه.

وهذا كلّه في إطار يمزج قواعد الفيلم العائلي بالكوميديا الانتقادية الساخرة، ويضع كلّ فرد من أبناء العائلة أمام مرآة نفسه، ولو قليلاً، لتبيان ما يحمله من أفكار ومسالك ورغبات وأهواء وأمزجة وتفكير وتأمّل.



في النصف الأول من "غداء العيد"، هناك ما يُضحِك من قسوة الراهن اللبناني، وما يدفع إلى انتباهٍ (إضافي أحيانًا لمن ينتبه دائمًا) إلى بشاعة واقعٍ يحتال النصف الأول عليه بتقديمه بصُور تقول إن كلّ شيء على ما يُرام داخل العائلة، وداخل نفوس أفرادها. لحظة التحوّل الكبير نابعةٌ من انتباه الأم إلى اختفاء مبلغ من المال يُسلّمه زوجها إليها في اليوم السابق. هذا كفيلٌ بانقلاب سينمائي وعائلي يؤدّي إلى تعرية الأفراد والعلاقات بينهم، كما الاجتماع الداخلي الضيّق، بلغة قاسية ومتوترة ومتينة البنيان الدرامي والأدائي، فإذا بالروابط العائلية ممزّقة في الخفاء، وإظهار نقيض ذلك أمام أنفسهم والآخرين يُخفي حجم الهوّة بينهم.

الكوميديا الساخرة من أحوال بلدٍ تتحوّل إلى دراما عائلية تُعرّي المبطّن في أفرادها. تختفي الكوميديا كلّيًا لأن حجم البؤس الداخلي ثقيل إلى درجة لا تُحتمل. هذا لن يُسقط عن "غداء العيد" بساطته الانتقادية الساخرة والهادئة في نصفه الأول، قبل الدخول في ما يُشبه "المطهر" الذي يُعرّي الجميع، والذي يحتاج إلى لغة درامية قاسية لتفكيك الأقنعة، التي تحجب حقائق مدفونة في ذوات تلبية لرغبة سلطوية ما داخل العائلة نفسها، كي تبقى الأمور خفيّة عن الآخرين. تعرية تضع كلّ واحد منهم أمام نفسه وأمام الآخرين، تمامًا كما يفعل الحفيد عندما يُتّهم بسرقة المبلغ، فيخلع ملابسه كلّها أمامهم، كإشارة إلى تعريتهم جميعهم، وجميعهم متّهمون.

غير أن التهمة بسرقة المال بابٌ إلى ما هو أوسع وأعمق وأخطر: تخلخل البنيان العائلي، والكذب والاحتيال والادّعاء، حرصًا على صورة خارجية ناصعة تُخفي عفنًا كثيرًا. أليس البلد برمّته هكذا؟
المساهمون