في الوقت الذي يعيش فيه قطاع غزة حالة من الانهيار الكارثي في الأوضاع المعيشية والاقتصادية بفعل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بأكثر من مليوني فلسطيني، تبرز تساؤلات عدة لدى الشارع حول حقلي الغاز اللذين تم اكتشافهما في عرض بحر غزة، واحد في تسعينيات القرن الماضي، والثاني في العام 2014.
اللافت هنا، أن خبراء اقتصاديين أكدوا وقتها بأن حقل الغاز المكتشف بأواخر التسعينيات، يكفي لسد احتياجات قطاع غزة حتى 25 عاما قادمة، كما أن الاستثمار فيه يعني تحقيق عوائد مادية ضخمة. تصورٌ قد يُغير من الواقع البائس ويقلبه رأساً على عقب، كيف وإن جَمع هذا الاستثمار حقلين من الغاز يقعان في عرض بحر غزة.
ويبعد حقل "التسعينيات" مسافة لا تزيد عن 36 كيلومترا من شاطئ غزة. وشرعت شركة "بريتش غاز" البريطانية ببنائه في العام 2000، بموجب عقد حصري منحته السلطة الفلسطينية في عام 1999 لها ولاتحاد المقاولين CCC للتنقيب عن الغاز في بحر غزة لمدة 15 عامًا.
حينها بدأت الشركتان عمليات البحث والتنقيب عن "الكنز الأسود" في بحر غزة، حتى تم اكتشاف حقلين للغاز، الأول "حقل غزة البري" الذي يقع كليا ضمن المياه الإقليمية الفلسطينية قبالة المدينة، وقدر المخزون به بنحو 30 مليار متر مكعب، أما الثاني فهو "حقل غزة الحدودي" ويقع على المنطقة الحدودية بين غزة و"إسرائيل"، ويقدر مخزونه بـ3 مليارات متر مكعب.
أما التوقعات الاقتصادية وقتها فلفتت إلى أن مجموع العوائد المالية لخزينة السلطة الفلسطينية من وراء هذا المشروع تبلغ حوالي 2 مليار دولار أميركي، على مدار 15 عامًا بحسب الاتفاق، والذي أعطى لصندوق الاستثمار الفلسطيني 10 في المائة من المشروع، فيما حصلت "بريتش غاز" البريطانية على 60 في المائة، واتحاد المقاولين الفلسطينيين 30 في المائة.
اليوم وبعد مرور ما يزيد عن 17 عامًا على عمر المشروع المتوقف لـ"أسباب لم تُكشف بعد"، راحت السلطة الفلسطينية لتوقيع اتفاقية مع الجانب الإسرائيلي تقضي بشراء الغاز من الأخير لمدة 20 عامًا، في الوقت الذي كان من المفترض أن يحقق استثمار حقول الغاز في بحر غزة، نهضة قوية في اقتصاد القطاع والضفة، بحسب الخبراء.
أخيرًا، في العام 2014 تبين وجود حقل جديد للغاز في بحر غزة يبعد مسافة 200 إلى 300 متر من شاطئ القطاع، ليثير المزيد من التساؤلات حول حجم ما يمتلكه الفلسطينيون من "الكنز الأسود" داخل المياه الإقليمية التابعة لقطاع غزة، بينما لا يزال هذا الملف يدخل في دائرة "التهميش" من قبل المسؤولين، وفي ظل سيطرة إسرائيل على المياه الفلسطينية وعدم سماحها لأحد بالاقتراب منه.
أعوامٌ مرّت على اكتشاف حقل عام 1999، وظهور الآخر بالعام 2014، دون تحرك جاد للاستثمار في هذا الملف أو القطاع الواعد، في الوقت الذي لا يزال الاحتلال الإسرائيلي يسيطر على مصادر الطاقة في غزة والضفة الغربية ويتحكم فيها ويمنعها عن الفلسطينيين متى شاء.
أمّا تحريك هذا الملف فمن المفترض أن يحقق حلولاً جذرية لأوضاع القطاع الساحلي المحاصر، والدفع بعجلة التنمية الاقتصادية، بما فيها التخلص من أزمة الكهرباء التي تعاني منها غزة منذ 12 عامًا حسب محليين.
وكان رئيس حكومة الوفاق الفلسطيني، رامي الحمد لله، صرح في عام 2013 أن "السلطة الفلسطينية ستكون دولة منتجة ومصدرة للغاز بحلول عام 2017"، بفضل حقوق الغاز في بحر غزة. لكن حقيقة الأمر أن قطاع غزة دخل عامًا جديدًا مليئًا بالأزمات التي تعصب بأكثر من مليوني مواطن تحت وطأة اشتداد الحصار الإسرائيلي، دون تغيّر.
وحقيقة الأمر أن حالة الانقسام الفلسطيني أوصلت قطاع غزة إلى مستويات أشد سوءًا في الجوانب المعيشية والاقتصادية مع اشتداد الحصار الإسرائيلي المطبق منذ 12 عامًا، ومع تأكيدات على أن حالة الخِصام بين حركتي "فتح" و"حماس" أعاقت مشاريع تنموية في غزة، من ضمنها عملية استثمار حقول الغاز واستخراجها.
أكد الخبير الاقتصادي الفلسطيني نهاد نشوان، أن "حقل غاز غزة يعتبر من الموارد الاقتصادية المهمة في القطاع، بحيث يكون هو المخرج الآمن في المرحلة الحالية وللأجيال القادمة، خاصة احتواء الحقل لكميات تصل إلى نحو 32 مليون متر مكعب من واقع بيانات صندوق الاستثمار الفلسطيني".
وأوضح نشوان في حديث لـ"العربي الجديد" أن "الشارع الفلسطيني مغيّب عن حقيقة غاز غزة، حتى السلطات الرسمية والجهات لا تملك تفاصيل عن الملف، خاصة أنه ملف احتكاري بين شركة اتحاد المقاولين وصندوق الاستثمار الفلسطينيين وبريتيش غاز البريطانية، حيث يقع الحقل الأكبر بمسمى "غزة مارين" في قبالة المنطقة الوسطى من القطاع".
ونوه نشوان إلى أنه "لم يتم المساس بغاز غزة حتى اليوم، كونه يحتاج إلى استثمارات بمبالغ طائلة، تصل إلى مليار ونصف مليار دولار فقط كلفة عمليات تجهيز استخراجه من البحر من حفر وتنقيب وغيره، في حين أنه من المتوقع أن يتم ذلك في ظروف اقتصادية أفضل حتى يغطي كل محطات التوليد في الوطن، وبيع الفائض المتحقق من هذا الحقل".
نفى نشوان أن تكون السلطة الفلسطينية تمارس سياسة التهميش تجاه ملف حقول غاز غزة، مؤكدًا أنها لم تصرف النظر بتاتًا عن الموضوع طوال السنوات الماضية، مشددًا على أن تقارير صندوق الاستثمار الفلسطيني من عام 2006 وحتى العام 2016 تشير إلى أن السلطة الفلسطينية تتداول الملف من واقع التكلفة المطلوبة لاستخراج الغاز من بحر غزة.
وقال الخبير الاقتصادي "هذا يعني أن السلطة الفلسطينية لها متابعة جيدة لملف حقول غاز غزة، لكن ظروف الانقسام الفلسطيني هي التي تمنعها من استخراج هذا الغاز أو تعديل العقود المتفقة عليها بين الشركات".
وحول وضع الاحتلال الإسرائيلي يده على حقول ومكامن غاز غزة، استبعد نشوان ذلك، مشيرًا إلى أن مخزون الاحتلال الإسرائيلي من الغاز هو خلال موارده الخاصة التي اكتشفها قبالة سواحل الأراضي المحتلة عام 1948، في حين ليس له علاقة بأي من حقول غزة كون عملية استخراج الغاز لا تتم من بعد جغرافي.
لكن مع التطورات الأخيرة في المنطقة، وسباق إسرائيل للسيطرة على الغاز المكتشف، وتهديدها بحروب إذا ما قام لبنان باستخراج الغاز من مياهها، يعني أن دولة الاحتلال يمكن أن تكرر ذلك مع حقول الغاز في بحر غزة، ويمكن أن تستهدف كل من يحاول القرب من هذا الملف الغامض والموضوع عليه علامات استفهام فلسطينية كبيرة.