يصعب إحصاء عدد النساء المقدسيات اللواتي يتصدرن المشهد اليومي في مقارعة الاحتلال الإسرائيلي، لكن الناشطة السياسية النسوية غادة الزغير، برزت بينهن في المواجهات اليومية في القدس، خصوصاً بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب القدس عاصمة لدولة الاحتلال. كان الاعتقال من نصيبها، وأبعدت عن مواقع الصدام والاحتجاج كغيرها من المدافعات والمدافعين عن عروبة القدس.
بعد اعتقالها الأخير، أصرّت غادة في حديثها لـ"العربي الجديد"، على القول إن "المرأة جزء لا يتجزأ من المجتمع المقدسي، تتعرض للقمع والترويع والترهيب والعقاب الجماعي كباقي مكونات المجتمع. بل يمكن القول إنها أكثر تأثرا باضطهاد سلطات الاحتلال كمواطنة فلسطينية تصطدم مباشرة مع سلطات الاحتلال، سواء عند استصدار وثائق رسمية كالهوية ووثيقة السفر وشهادة الميلاد ورخصة السياقة وغيرها".
وأكدت أن "المرأة المقدسية تعاني من إجراءات عنصرية وتعسفية كونها فلسطينية، إضافة إلى معاناتها الاقتصادية بسبب الفقر والبطالة وضعف المساعدات والاستثمارات لصالح المقدسيين عموماً والنساء على وجه الخصوص، عوضاً عن سياسة استنزاف جيوب المقدسيين التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلية من خلال منظومة مركبة من الضرائب".
المرأة المنتفضة
الناشطة الزغير حاصلة على شهادات عليا في مجال التنمية المستدامة والحكم الرشيد، وشغلت في السابق منصب المديرة الإقليمية لمنظمة الشفافية الدولية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومنصب المديرة السابقة لائتلاف أمان للنزاهة والمساءلة، وعضو المجلس النسوي الأعلى، وهو الذراع النسوي للقيادة الموحدة للانتفاضة (انتفاضة الحجارة عام 1987). وسبق أن اعتقلت مرات عدة خلال الانتفاضة.
بالنسبة لغادة، فإن "غياب الأمن والأمان والوضع الاقتصادي الهش وإجراءات الاحتلال من هدم المنازل والاعتقال والاقتحامات وسحب الهويات والحرمان من لمّ شمل العائلات، كلها من الأسباب التي تحمل المرأة المقدسية على الانتفاض للتصدي للاحتلال والدفاع عن بيتها وأطفالها ومدينتها بكل ما أوتيت من قوة".
وأشارت في المقابل إلى "انتشار عشرات المؤسسات والجمعيات النسوية التي تسعى للنهوض بوضع المرأة والتخفيف من معاناتها"، لافتة إلى "نشاط المرأة في الأطر والائتلافات الوطنية الهادفة إلى إعداد الأبحاث والتقارير حول أوضاع المقدسيين لحشد الدعم السياسي والمعنوي والمادي للمقدسيين".
الانتصار للأسرى والأسيرات
وتحدثت عن بروز دور المرأة المقدسية في الفعاليات الوطنية نصرة للأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال، مؤكدة وجودها دوماً بالصفوف الأولى في المظاهرات والاعتصامات أمام مقر الصليب الأحمر الدولي بالقدس وأمام السجون.
ولم يغب عن الزغير التركيز على دور المرأة المقدسية بمعركة المسجد الأقصى المعروفة بمعركة البوابات الإلكترونية، والاحتجاجات على قرار ترامب بشأن القدس وزيارة نائبه مايك بنس أيضاً، إذ رابطت أمام بوابات المسجد الأقصى ونظمت الاعتصامات الاحتجاجية بباب العامود، وقادت المظاهرات في شارع صلاح الدين من خلال الهتاف ورفع الأعلام الفلسطينية، ما أدى إلى استهدافها من قبل شرطة الاحتلال بالضرب والسحل والاعتقال وكيل الشتائم لها والإهانات.
وأكدت تضامن المرأة المقدسية مع أسر الأسرى والأسيرات من خلال زيارة أسرهم وتقديم الدعم المعنوي لها والمادي (إن دعت الحاجة). إلى جانب تقديم عدد من المتخصصات الدعم النفسي للنساء وأسرهن، لا سيما أسر الشهداء والجرحى والأسرى، والعائلات في مناطق التماس مع المستوطنين، خصوصاً في البلدة القديمة من القدس وفي سلوان، جنوب القدس، وللذين يعانون من أمراض خطيرة كالسرطان.
غادة الزغير ترى أن المرأة المقدسية لها دور مقاوم في التصدي لتعسف سلطات الاحتلال في كل أحياء القدس، خاصة في سلوان والعيسوية والبلدة القديمة، وهي دوما بمقدمة الصفوف. كما يبرز دورها في تمثيل تنظيمها أو حزبها في القوى الوطنية والإسلامية للتنسيق للفعاليات الوطنية المناهضة للاحتلال.
تجربة النساء في هبّة تموز/ يوليو
لا تفوت الزغير تجربة نساء القدس ودورهن في الدفاع عن المسجد الأقصى في هبة يوليو/ تموز 2017، حين قررت سلطات الاحتلال فرض البوابات الإلكترونية واقعا قسرياً على المقدسيين.
وقالت غادة: "مشاركة النساء بالاعتصامات في محيط الأقصى لنحو 14 يوما كانت ظاهرة لافتة. فقدمن الطعام والشراب للمعتصمين من المقدسيين وفلسطينيي الداخل والمتضامنين لدعم صمودهم وثباتهم في هذه المعركة. وبرز دور النساء في الرباط أمام بوابات الأقصى والتصدي لغيلان المستوطنين أثناء اقتحاماتهم لباحات الحرم، وعلت حناجرهن بالتكبير ورفع القرآن في وجه المقتحمين، رغم تعرضهن لقمع الشرطة الإسرائيلية وإبعاد عدد منهن عن الأقصى لعدة أسابيع.
وأوضحت أن العديد من النساء المقدسيات قمن بتوثيق أحداث هبة الأقصى ببث مباشر من شوارع القدس، حيث أقام المقدسيون صلاة الجمعة لمدة أسبوعين متتاليين. كما شهدت مواقع التواصل الاجتماعي نشاطا ملحوظا من قبل الشابات المقدسيات، وقمن بحشد رفيقاتهن للمشاركة في الاحتجاجات، إضافة إلى كتابة المنشورات وعرض فيديوهات مقاومة المقدسيين للاحتلال. كما بادرن إلى ختم الأوراق النقدية بهاشتاغ "#القدس_عاصمة_فلسطين_الأبدية".
لماذا غيّبت المرأة بعد انتصارها؟
وأعربت الزغير عن استيائها من تغييب المرأة عقب انتصار تموز، فتقول: "رغم هذه المشاركة الفاعلة ورغم مشاهد الصمود والقمع للمرابطات والمعتصمات التي رأيناها على شاشات التلفزة، إلا أن المرأة غُيبت عن المؤتمرات الصحافية التي عقدها رجال الدين بانتظام، كما استبعدت عن وسائل الإعلام. لم يتم تمثيل أي امرأة في لجنة المتابعة التي تشكلت بالأساس من رجال الدين وممثلين عن القوى الوطنية".
ووصفت الوضع بأنه "تراجع عن المكتسبات التي حققتها المرأة الفلسطينية في السابق خاصة في قيادة انتفاضة الحجارة والعملية السياسية بداية التسعينيات. فالمجلس النسوي الأعلى ضم عضوتين من القدس، ومع انطلاق مؤتمر مدريد للسلام وعملية المفاوضات بادرت مجموعة من النساء، معظمهن من القدس، إلى تأسيس طاقم شؤون المرأة كجهة فنية مختصة لدعم الطاقم الفلسطيني للمفاوضات".
وربطت الزغير هذا التراجع بدور فصائل منظمة التحرير الفلسطينية المتراجع، خصوصاً اليسارية منها، بسبب تماهيها الكامل مع السلطة الفلسطينية، وتفريغها من العمل النضالي والمقاوم، بالإضافة إلى الانقسام الداخلي ووجود سلطتين في غزة والضفة الغربية. ووجدت أيضاً أن "صعود التيارات الدينية، خصوصاً الحركات الإسلامية مثل حماس، خلال العقدين الماضيين، ساهم مساهمة كبيرة في تكريس الدور النمطي للنساء، الذي لا يزال سائداً كذلك في أوساط الفصائل الفلسطينية التي تدعي بأنها يسارية وعلمانية".
وأعربت غادة الزغير عن أسفها "للانقسام الذي ساهم بإضعاف دور المرأة وتمثيلها في القدس، فلا توجد إرادة لدى الناشطات من حركتي فتح وحماس للقاء وتوحيد الجهود، ما أبقى الحراك النسوي ضعيفاً وفاقد القدرة على فرض وجوده على القيادة الذكورية التي قادت الهبة".
ورأت أن "لا القيادة الدينية ولا قيادة فصائل المنظمة تعاملت كما يجب مع الحراك الشبابي بما ينسجم مع حجم وفعالية المشاركة في الهبة. فهي قيادة تقليدية هرمة لم تتجدد ومفصولة عن واقع الشباب وهمومه وتطلعاته، وفاقدة القدرة على مواكبة التطورات وفهم واستيعاب الشباب وأدواتهم النضالية. بل ظلت تتعامل مع الشباب كوقود للاحتجاجات فقط".
معركة القدس الحالية
رغم ضعف الحراك وتراجعه مقارنة بالحراك إبان هبة الأقصى، إلا أن النساء، كما قالت الزغير، برزن بوضوح في مختلف الفعاليات الاحتجاجية. وبادرت النساء منذ قرار ترامب بتنظيم اعتصام يومي في باب العامود تتخلله الهتافات ورفع اللافتات والشعارات والأعلام الفلسطينية. ونظمت المقدسيات فعاليات بمناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة، ووضعن شجرة الميلاد وأوقدن الشموع من أجل الأسيرة إسراء جعابيص.
وتابعت "هذه الفعاليات تهدف إلى التأكيد على عروبة القدس ورفض قرار ترامب بإعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني كانت ولا تزال شوكة بحلق الاحتلال، الذي حشد عشرات الشرطيين في باب العامود في القدس لمنع النساء من الاحتجاج. ووضع الاحتلال أيضا سواتر حديدية لمنع النساء من الاعتصام على درجات باب العامود، بالإضافة إلى نصب كاميرات المراقبة في المكان".
وأضافت غادة: "تعرضنا لقمع وحشي من قبل شرطة الاحتلال إبان اعتصامنا، من سحل النساء ودفعهن وضربهن، وأصيبت العديد منهن ونقلن إلى المشافي. كما اعتقلوا وأبعدوا بعضنا عن البلدة القديمة وباب العامود وشارعي صلاح الدين والسلطان سليمان. ناهيك عن تشكيلنا درعا بشريا لمنع شرطة الاحتلال من التنكيل بالشبان والفتية في باب العامود ومنع عملية اعتقالهم".
وعن التفاصيل، قالت: "في شارع صلاح الدين في مدينة القدس واظبت النساء على المشاركة في المظاهرات الاحتجاجية على قرار ترامب وكان لهن الدور الرئيسي في قيادتها. ولم تكتف النساء المقدسيات بالمشاركة في الفعاليات الاحتجاجية، بل أخذت على عاتقها مهمة التغطية الإعلامية ونقلها عبر الفضائيات وشبكة التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على حقيقة الاحتلال الإسرائيلي، ورفض المقدسيين لقرار ترامب وما تبعته من سياسات وقوانين عنصرية إسرائيلية بحق المقدسيين".
وقالت: "أنا شخصيا أكن كل الاحترام والتقدير للصحافيات المقدسيات لشجاعتهن وتفانيهن والعمل ليل نهار، ولمهنيتهن العالية".
تجربة شخصية
عن تجربتها الشخصية في هبة القدس الأخيرة بعد قرار ترامب، قالت الزغير: "اعتقلت مرتين في منطقة باب العامود بعد تعرضي للضرب والشتائم من قبل شرطة الاحتلال. وبالحقيقة أرى نفسي مستهدفة من قبلهم بسبب اعتصامي اليومي وقيادتي للاحتجاجات وثباتي في المكان رغم محاولات إخراجي بالقوة. لم تكن عملية الاعتقال بكلا المرتين سهلة، واستمرت مشاداتي الكلامية معهم، وكنت أواصل الهتاف حتى وصولي لمركز التوقيف في شارع صلاح الدين".
وتابعت: "أطلقت الهتافات باللغة الانكليزية إبان اعتقالي يوم 22 يناير/ كانون الثاني الماضي، الذي تزامن مع زيارة مايك بنس للقدس، لإيصال رسالة نساء القدس اللواتي منعن من التظاهر في باب العامود. هتفت ضد قرار ترامب قائلة لبنس: هنا القدس عاصمة فلسطين الأبدية، واسمع يا بنس نحن الشعب الفلسطيني من يقرر مصير ومستقبل القدس وغيرها".
وعن اعتقالها قالت: "فتشوني جسديا وفتشوا حقيبة يدي، وقيدوا يدي بالكلبشات وقدمي بالجنازير، ووضعت في غرفة تحت حراسة مجندة إسرائيلية. ومنعت من استخدام هاتفها والتحدث مع الموقوفين الآخرين. في التحقيق وجهت لي عدة تهم، منها الإخلال بالنظام العام، ومنع الشرطة الإسرائيلية من القيام بمهامها، وضرب شرطي وتهديد شرطي بالانتقام منه". وتابعت "تركز التحقيق على مواقفي السياسية من قرار ترامب وزيارة بنس. وحاول المحقق التقليل من فائدة المظاهرات وعدم جدواها، مشيراً إلى أن الفلسطينيين وحيدون وضعيفون بعد أن تخلى عنهم العرب، وبعد أن تحدوا أميركا العظمى". أطلق سراح غادة في المرتين بكفالة مالية وبإبعادها عن باب العامود وشارعي صلاح الدين والسلطان سليمان (أماكن التماس مع شرطة الاحتلال)".
مرجعيات القدس
عن مستقبل القدس، قالت الزغير: "يجب أن نوحد المرجعيات، وإيجاد مرجعية عابرة للتنظيمات ذات مصداقية، قيادة ميدانية واعية ليس لها مصلحة شخصية ولا تباع ولا تشترى للنهوض بالعمل الوطني بالقدس، قيادة تأخذ بعين الاعتبار تمثيل مركبات وفئات المجتمع المقدسي المختلفة من النساء والشبان والتجار ومنظمات المجتمع المدني ونشطاء التنظيمات لوضع استراتيجية وطنية شاملة".
وأضافت "يجب أيضا إتاحة المجال لابتداع أشكال نضالية مختلفة كل حسب إمكانياته وخبراته. هناك حاجة لتفعيل الاتصالات بالمنتديات الدولية وحركات المقاطعة والتضامن، وشرح أوضاع المدينة وتجنيدهم لدعمها سياسيا ومعنويا وماديا. يجب توثيق جرائم الاحتلال بالقدس والذهاب بها لمحكمة الجنايات الدولية والمؤسسات الحقوقية والأمم المتحدة. لدينا الكثير من الطواقم العاملة في هذا المجال بالقدس، المطلوب منها أن تحسن أداءها بما يتناسب مع متطلبات المؤسسات الدولية حتى لا ترفضها بسبب نقص المعلومات والأدلة أو عدم دقتها".