عينُ عربيّ في ألمانيا الفائزة

15 يوليو 2014

بهجة ألمانية في برلين بعد الفوز بكأس العالم (أ.ف.ب)

+ الخط -

أن تسمع عن احتفالات الألمان بالحصول على كأس العالم شيء، وأن تعيش أجواءها شيء مختلف تماماً. شاءت الأقدار أن أسكن في وسط الجزء الغربي من مدينة برلين، حيث شارع "كو دام" الشهير في منطقة "شارلوتنبرج"، وهو من الساحات الرئيسية التي يتابع فيها الألمان مباريات فريقهم، ويحتفلون فيه بعد كل انتصار. في المباراة النهائية، التزم المشجعون الألمان الصمت شبه التام، لكنه لم يكن صمت القلق، بقدر ما كان صمت الانتظار. فلم تكد الكرة تهز شباك الفريق المنافس، إلا وانطلقت الألعاب النارية، بصورة بدت ممنهجة، لتستمر طوال الدقائق القليلة المتبقية من المباراة. تحولت المنطقة، مع صافرة النهاية، إلى ساحةٍ ضخمة، لمشجعين أتوا من كل مناطق برلين. وقفت عربات الشرطة ومدرعاتها على جوانب الطريق، تشاهد المنظر من دون تدخل. كانت لحظات تعطل فيها القانون بالكامل، فلم يلتزم المارة والسائقون بأي قواعد للمرور، وجلس مشجعون على الأرض، لمنع السيارات من العبور ابتهاجاً. كانت لحظةً، تنحّى فيها القانون قليلاً، حتى لا يفسد بهجة الناس.
وفيما بدا كأنه اتفاق، لم ألحظ وجود سياراتٍ كثيرة غير ألمانية، وهي منتشرة في الأحوال العادية في شوارع برلين. بل وكان هناك حضور قوي لسيارات "البورشة" الألمانية الشهيرة، رمز القوة والسرعة والفخامة، وكلها نتاج هندسة ميكانيكية، يثمنها الألمان، ويفاخرون بها. أحسست وكأن الجماهير الألمانية تذكّرنا بأن تفوق بلادهم في كرة القدم جزء من منظومةِ تفوقها في أشياء أخرى كثيرة. كما لاحظت وجوداً مكثفاً لأفراد وجماعاتٍ، بدت بوضوح غير ألمانية، لكنها كانت على الدرجة نفسها من البهجة. كما كان هناك حضور واضح لـ"الحجاب الإسلامي"، ارتدته فتياتٌ رسمن علم ألمانيا على خدودهن وجباههن، وانتشرن وسط الجموع. كان الجميع في حالة انتشاءٍ لا يمكن وصفه، كانوا يعانقون بعضهم، وحتى من لا يعرفونهم. وملأت رائحة المشروبات "الروحية" الهواء، فيما بدا انتقالاً إلى مرحلة أخرى من الانتشاء.
ليست لي، كعربي، في مباريات كأس العالم، ناقة ولا جمل، ولكن متابعة أخبارها لم تعد خياراً اليوم. فقد أصبحت هذه المسابقة من مظاهر العولمة، بكل تناقضاتها. ففي وقت تقوم فيه على تنافس فرق تمثل دولاً قوميةً، وتدغدغ المشاعر الوطنية، حتى لمن لا يهتم كثيراً بكرة القدم، فإنها توحّد شعوب العالم التي تجتمع، كل يوم، في الموعد نفسه، لمتابعة الحدث نفسه شهراً كاملاً. ينطبق ذلك على الشعوب التي تمثلها فرق بلادها في المسابقة، وتلك التي تتابعها فقط ولا تشترك فيها. وتشجع الشعوب الأخيرة فرق دول أخرى، على أسس مختلفة، قد تكون عرقية، أو جغرافية، أو ثقافية، تشير، مرة أخرى، إلى "مراتب" الهوية الفردية والجماعية في عصرٍ، يسعى جاهداً إلى التنميط المستمر لشعوب العالم، على أساس أفكار الثقافات المنتصرة، ومن خلال تقنياتها الساحرة.   
بدت منطقة "شارلوتنبرج" مستعدة تماماً للاحتفالات. لم أستغرب ذلك على الإطلاق. فقد كان الألمان على ثقة مطلقةٍ بفوزهم. ولن أنسى ما قاله لي ألماني، قبل لقاء بلاده مع البرازيل. أكد لي، بثقةٍ تامة، أن فريق بلاده قادر على هزيمة أي فريق آخر، فهو فريق، حسب قوله، له "أسلوب ومنهج". حين كنت أتابع فقرات من المباراة، كانت عيني تلحظ أشكالاً هندسية مختلفة، تصنعها تمريرات الفريق الألماني. كنت أرى المثلث، بأنواعه المختلفة، والمربع والمستطيل. كانت الأشكال تتغير باستمرار، لكنها كانت موجودة دائماً. لم يكن هناك أي استعراض لأي مهارات فردية. بل لم يبد لي أنه كانت هناك مهارات فردية أصلاً. كانت هناك فقط تمريرات محسوبة، ودقيقة، ومتقنة، وهادفة. على العكس، لم أستطع رؤية أي شكل هندسيٍ، يصنعه الفريق المنافس. رأيت استعراضاً لمهاراتٍ فرديةٍ، قد تكون ممتعة أحياناً، لكنها لا تفعل أكثر من ذلك. رأيت فريقاً يفتقد إلى المنهج. ولابد أن ذلك كان مصدر ثقة الألمان. فالألمان لا يثقون بفريقهم، على أساس العاطفة الوطنية. أدرك الألمان أن المواجهة ستكون بين فريقٍ، يخطط تخطيطاً علمياً هندسياً متقناً، وإن كان مملاً أحياناً، وفريق لا يتقن التخطيط بالقدر نفسه. في نظر شعبٍ، يرى العلم المبدأ والمنتهى، لم تكن أي هزيمة محتملة للفريق الألماني، لتتعدى احتمالاً واحداً، هو أن تكون ضربة حظ للفريق المنافس، أي انتصاراً لا يمكن تبريره علمياً. أما الانتصار المتوقع للفريق الألماني فهو مفهوم ومبرر،

وليس فقط مستحقاً. وحين وقع المتوقع، أدركت أنه لا أروع من أن تكون منتصراً، إلا أن تكون واثقا من النصر. 
ربما ودّ المرء، في قرارة نفسه، أن تنتصر الأرجنتين، فهي تنتمي إلى عالم "الجنوب" مثلنا، حيث كثيراً ما نتعلق بالأمل الزائف في أن الحظ قد يغلب العلم والتخطيط. وحين نسيت شجوننا الوطنية، وسط فرحة آلاف الألمان، شعرت بوخز الضمير. في تلك اللحظة، رأيت ما بدا أنه شاب عربي، وقد تسلق سارية إشارة مرور، ليرفع علم فلسطين. تذكّرت أنه، في اللحظة التي يحتفل فيها هؤلاء، يهرب آلاف العرب من منازلهم تحت تهديدات عدوٍّ، أتقن التخطيط و"الهندسة" العلمية التي لا تحكمها إلا القواعد العلمية فقط. فبالمنهج الصارم نفسه، والذي سيق به هؤلاء إلى غرف الغاز على أنغام الموسيقى، يقومون، الآن، بالقتل والتدمير، بالهدوء العلمي الواثق من النتيجة. لا أعرف لماذا رفع الشاب علم فلسطين، بدا لي سعيداً هو الآخر. أغلب الظن أنه لم يستطع مقاومة سحر تلك الأجواء، فالفرح، كما الحزن، عدوى. ولكن، ربما كان يسعى، هو الآخر، إلى أن يستمد أملاً زائفاً آخر من أجواء نصرٍ، ليس له فيه فضل، أو نصيب.
حين أحسست، شخصياً، بتسرب ذلك الأمل، إلا نفسي، وسط تلك الأجواء، تذكّرت على الفور أن البون بيننا وبين النصر شاسع. ففي ثقافة "أصابع الكفتة"، يستخف الحاكم بالمحكومين، واعداً إياهم بأن تصبح بلادهم "قد الدنيا"، من دون عناء التفكير في أي منهج. فالطغاة قادرون على صنع المعجزات، بلا حاجةٍ إلى أي منهج. حين تذكرت مشاهد من يدافعون عن خواء هؤلاء وفاشيتهم، على أسس وطنية وأخرى دينية، أدركت لماذا كانت أوروبا، ولماذا استمرت أوروبا. أدركت أنه لا مفاجأة، فالقضية هي الفرق بين ثقافة التخطيط والتنفيذ المتقن وثقافة ترزح تحت أوهام "الكفتة" وعقائد آكلي "الفتة". تعرف الأولى سبيل نجاحها، وتثق به، بينما أقصى ما تملكه الثانية انتظار ضربة حظ، انتظرناها معهم كثيراً، وأخشى أن ننتظرها معهم أبداً.    

A3679657-5221-4ECE-92E6-39E2DE03FA90
عمرو عثمان

كاتب وباحث مصري. يعمل أستاذًا مساعدًا في قسم العلوم الإنسانية بجامعة قطر. درس العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حصل على الدكتوراه من جامعة برنستون الأميركية. تشمل اهتماماته البحثية الدراسات الإسلامية والفكر العربي الحديث والمعاصر.