عيد قيد التجديد

05 يونيو 2019
+ الخط -
لا أعلم من لقّب أبقراط بأبي الطب؟ هذا سؤال قد لا يشغل بالك بتاتا، لكنه لعدد عديد من خلق الله غاية في الأهمية والوجاهة، هم قوم ينقمون على أبقراط والأطباء عن بكرة أبيهم، بل وتمتد موجة سخطهم حتى طلبة التمريض وموظفي الأمن بالقطاع الطبي!

مسألة تستدعي الوقوف عندها، والبكاء على أطلالها إن لزم الأمر، ولا يدرك خطرها إلا هذا الكائن المعذب الموسوم بالمغترب؛ فهذا الآدمي كانت له أمانيّ عراض، وقبل سنوات كانت له ابتسامات وتجليات، لا أغمز في قناة الصوفية، ولا أقصد مطامح ومطامع سياسية؛ فهو أغلب من الغلب يا ولداه، إنما أقصد تعاطيه مع العيد السعيد، أو اللي كان سعيد!

بعيدًا عن سيل العرم من رسائل التهنئة التي تصله، وبعيدا من بعض الاتصالات الرخيصة التي تمزق طبلة أذنه، ومع تجاوز تنبيه المديرين والمشرفين لما يتعين عليه تنفيذه بعد العيد؛ فإنه يعيش مغلفًا بالوحدة المكبرة، ويقضي ساعات العيد- يفترض أنها ساعات بهجة وحبور- بين حافتي سريره، وهذا أقصى مراحل الترف الذي يحظى به.


وتراه يسألك: إن كان العيد فرحة، وإن كانت أيامه تشرح القلب الحزين، ولو أنه يغسل الأرواح ويداوي الجراح؛ فلماذا لم يحدث لنا شيء من ذلك؟ ولماذا أغفل أبقراط وصف علاج لحالاتنا؟ أقصى أمانيه أن يعود طفلًا لاهيًا، لا يلوي على شيء مطلقًا، ولو أن الدنيا من حوله "تخبط ترزع"؛ فهو طفل لا يشغل باله بمظاهرات ولا بسقوط دماء ذكية في عيد الفطر، ولا يهمه اختلافهم في رؤية هلال العيد، ولا فرق عنده بين من يسأل عنه أو من يتشاغل ويتدلل بزيادة.

كل ما يهمه في طفولته أمران؛ أن يلبس الجديد وأن يجمع غنيمة العيد، وإن كان جمعه للعيدية يصاب في مقتل، وهو لا يختلف عن النمل، ومثلما أن "اللي يجمعه النمل في سنة ياخده الجمل في خفه"؛ فإن ما يجمعه الغر في يوم العيد الأول بطوله وعرضه، تصادره أمه بابتسامة عذبة وكلمة طارت في الخافقين، وأضحت ماركة مسجلة للأمهات في العيد "هات أشيلك العيدية"!

هنا يقع الصغير بين فكي كماشة؛ فإما يرضخ ويخضع فيناله قسط عاجل من فُطرة العيد وجرعة من القبلات والإطراءات، ويغدو أسعد إخوانه وأخواته، وإما أن يتمرد ويشق عصا الطاعة؛ ليرى العين الحمراء وقد يعاني ويلات التصعيد.

إن تحويشة اليوم الأول من العيد مهددة، واليوم الأول استراتيجي في جمع العيدية؛ فخلاله يكون العطاء أكثر- نوعيًا لا كميًّا- من باقي الأيام، وقد يجمع من أحد أقاربه ما جمعه من البقية الباقية مجتمعين، ولسان حاله (والناس ألف منهم كواحدٍ/ وواحدٌ كالألف إنْ أمرٌ عنا)، والأمر هنا العيدية، وبمقدارها يتفاضل الأشخاص! وحبذا لو بالعملة الصعبة، والأمل لا ينقطع في أن يتحفه بعضهم بالشيء الفلاني.

وبعدما يفاضل بين الأقارب والأباعد، ويصنفهم تصنيفًا براغماتيًا وَفق مقدار الهبات والعطايا والهدايا والعيدية، يفقد كل ذلك بكلمة أمه السحرية "هات أشيلك العيدية"، ويلتزم الأب الحياد غالبًا؛ فإن لمح عصيانًا من أحد الأبناء، انتحى به جانبًا وأخلص إليه النصح أن يسمع كلام أمه، وأمام ضغوط القوتين العظميين في البيت يستسلم الصغير لمصيره المحتوم، وكأنك يا أبو زيد ما جمعت العيدية!

حتى في البيت، يعيش الصغير بمنطق "شخلل عشان تعدي"؛ فيشخلل بإفراغ محتويات جيبه الصغير، وليس من حقه أن يسأل عن العيدية اللي اتشالت له؛ فهذه وقاحة وسوء أدب، ويجب عليه أن ينساها إلى أبد الآبدين. انتقلت الشخللة من البيت إلى الحكومة، وإن أجرى البيت عليها حكم التخصيص فإن الحكومة ارتأت بهرج التعميم؛ فالشخللة في البيت تقتصر على العيد، بينما شخللة الحكومة شكل ثانٍ، شخلل في كل وقت وشخلل لأجل كل شيء، ومن تمرد على الشخللة استحق ما لا يرضيه!

صباح العيد، وبينما يُغمض المغترب عينه وهو يتقلب في فراشه، يتمنى أن يعود طفلًا يعالج جمع العيدية ويعاني مرارة تسليمها لأمه، ويراها أوقع في نفسه وأجمل في قلبه من قضاء العيد وحيدًا. تأخذه سبحات الفكر لماضٍ بكر، لم تعبث به أيادٍ مريضة؛ فتحرمه من ارتداء ثوب قشيب في اليمن، وتختطف ثورته في الخرطوم، وتقتل أهله في طرابلس وهم صائمون، وتتعنت ضد إرادته في الجزائر، وترتدي مسوح القديسين في دمشق، وتتركه نُهبة للخلاف الطائفي في العراق، وعن مصر فالأمر جلل.

فئة أخرى من المغتربين، امتن الله عليهم بتكوين أسرة صغيرة، تستعيد بعضًا من ذكرياتها القديمة مع أبنائها، وربما مع عدد من الأصدقاء إن وُجدوا، لكنما نوستالوجيا طفولتهم تعزف سيمفونيات لم يعرفها بيتهوفن ولم يعزفها أندريه ريو. حياتهم وإن زخرت بألوان التكنولوجيا ومسحة من الرفاهية، لكنها تفتقر الدفء العائلي بين العائلة الكبيرة، وتتجرع غصة الغربة مكرهة؛ فأكل العيش مر.

فرقة ثالثة تتعامل بمنطق السفر، ولما كانت الحياة سفراً في سفر، ولأن الحياة تعب في تعب؛ فلا بأس من السفر بين أسفار الكتب تزجية للفراغ، وطلبا للفائدة والاستئناس بتجارب الآخرين؛ فالعيد لن يحول بينهم وبين القراءة، بل إن القراءة تحدوهم لنزاع غطاء الخمول والنوم الطويل، وتستفزهم لكشف عوالم من السعادة المعنوية، سعادة قد تفوق سعادتهم بالعيد وهم كبار، وإن كانت لا توازي حبورهم باستقبال العيد في طفولتهم. كانوا في صغرهم يفرحون بثياب العيد الجديدة، فلما تغربت روحهم داخل أوطانهم، أو تغربت أجسامهم خارجها، لاذوا بالقراءة عونًا ووسيلة لقطع فيافي الغربة، واستثمارًا للوقت في مفازات السأم والحيرة؛ فوجدوا نفوسهم تتقافز بين السطور تقافزها في صغرهم بين جنبات العيد.

يفرحون بالغوص في بطون الكتب، غوص الصغار في جبال من الهدايا والألعاب، وإن كان الأطفال يلعبون بالدنيا صغارًا، والدنيا تلعب بهم كبارًا؛ فلا بأس أن نأخذ فاصلًا نلتقط أنفاسنا، ونقرأ كيف تعامل الكبار مع الدنيا، وكيف تغلبوا على غربتهم فيها بكل أصنافها وأطيافها، وخير جليسٍ في الزمان كتاب.

حبذا لو نقف مع أنفسنا، ونستعيد شيئًا من طفولتنا، وندخل عليها مقدارًا من البهجة يعادل ما داخلها من بؤس وشقاء. ربما لا نملك في غربتنا أن نحتضن أهلينا وخاصتنا، لكن بمقدورنا أن نعبر لهم عن حبنا وتقديرنا في اتصال مفعم بالمشاعر، أو رسالة صادقة يغيب عنها شبح "كوبي بيست"؛ فالقص واللصق أغرقا الحياة الاجتماعية إغراق البضائع المقلدة الأسواق، ولنقرأ الآخرين كما نقرأ الكتب ونحاول أن نفيد منهم ولا نحاكمهم. إن العيد يحمل ولو بصيصًا من سعادة، وينثر ولو بقايا من أريج فرحة، ومن التحديات التي تواجهنا أن نبتسم في ظل ما نكابده، لكن بسمتك أمل لمن يرونك قدوتهم ومصباح دربهم؛ فلا تفقد الأمل ولا تبخل إن رأيت طفلًا، أعطه ما ينعش طفولته ويسعد قلبه، ولا عليك إن كانت أمه ستصادر العيدية لاحقًا؛ فإن الفرحة التي تأتلق في عينه لتساوي كنوز الدنيا، وثق أن سعادة الدنيا في العطاء، وجامل الناس بإخلاص ولا تتصنع، واقرأ لتزيد أصدقاءك من شتى العصور والأزمان، وعندها لن تجد الغربة لفؤادك سبيلا ولن يلقى اليأس لفؤادك مسلكا.
دلالات