في مقالة له عنوانها "قطيعة الماضي"، قال سلامة موسى إن علينا "أن ننهض بقطيعة السلف فلا نحترمه ولا نحتقره، بل ننظر إليه بصفة كونه يمثّل طوراً من أطوار الإنسانية"، ثم نشرع بعد في "اختطاط الخطط الجديدة في الأخلاق والآداب والعلوم". فردّ عليه ساطع الحصري في مقالة بالعنوان ذاته بالقول: "إن علينا أن نستمدّ القوّة من أجدادنا ليس لتقليدهم، بل لتقوية عزائمنا لبلوغ منزلة سامية من حضارة العصر الذي نعيش فيه".
هذه عيّنة من نقاش دار قبل تسعين عاماً، وكان في وقته تكراراً لكلام آخر دار قبله بأكثر من خمسين عاماً، دون أن تظهر نتيجة ملموسة على الأرض تحلّ هذه المسألة.
والظاهر أننا نسير في حلقة مفرغة، أو خط دائري يعيدنا كل بضعة عقود إلى نقطة البداية. تتغيّر وجوه المشاركين في النقاش، ويتبدّل مستوى النقاش نفسه من حيث العمق والمعرفة، لكن المضمون واحد، والقضية هي هي، بحيث يبدو كأن لا مخرج لنا من هذا الجدل العجيب الذي يجعلنا نطرح على أنفسنا الأسئلة ذاتها، ونرفض أن نصل إلى أجوبة مشتركة.
ما زلنا نختلف حول الديموقراطية، وثمّة من بين مفكّرينا المشهورين من يقول إن علينا أن نحذفها من المعجم العربي كلّه، وأنها ليست سوى تقليد أعمى لأفكار لا تناسب مجتمعنا وطموحاتنا، في حين لا يقول المفكّر شيئاً مهمّاً عن التخلُّص من الطغيان. ولا يزال بيننا من يقول إن العلمانية كفر وإلحاد على الرغم من أن العلمانيين يُقسمون أمامهم قائلين إنهم مؤمنون ولا يريدون غير فصل الدين عن الدولة فقط، وإبعاد رجل الدين عن السياسة، ولا يزال الخلاف حول الحاكم والمجتمع المدني قائماً أيضاً.
وقد كتب مترجمُ كتاب ألبرت حوراني "الفكر العربي في عصر النهضة" يقول في المقدّمة إن القضية الأساسية أمام الشعوب العربية إنما هي إعادة الصلة الروحية بين الحاكم والمحكوم... بحيث يصبح بإمكان المواطن أن يطيع من يجب أن يُطاع، وثمّة من يدين كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" داعياً إلى استعادة الخلافة، دون أن يُفسح المجال أمام خصمه للسؤال أي خلافة؟
ومن الطبيعي أن تحتدم في زمن النهضة كثير من القضايا وأن يكون النقاش في أمرها حارّاً وعنيفاً أحياناً، إذ أن المجتمعات العربية كانت أمام مفاصل الخيار بين أن تبقى في العالم القديم، أو تتقدّم وتأخذ دورها في الحاضر. بل كان السؤال عن التاريخ، وماذا نأخذ منه أو ماذا نرفض، سؤالاً يتعلّق بالنهضة ومستحقاتها، وكان النقاش يدور أحياناً بين أفراد مختلفين ولكنهم يؤمنون بحرية الرأي والقول، دون أن ننكر أن متدخّلين آخرين كانوا يحسمون أمورهم على نية تحطيم الآخر ولعنه وتكفيره أيضاً.
أمّا أن تُستعاد القضايا ذاتها بعد أكثر من مئة عام، فهذا يعني أننا لم نقل شيئاً، ولم نفعل شيئاً، وأنَّ المشكلة التي لم تُحل بعد حول أسبقية البيضة أم الدجاجة لا تزال على حالها بلا حلّ أيضاً.