عودة الشاعر

14 اغسطس 2015

محمود درويش.. مازلنا نقرأه قصيدته بدهشة القراءة الأولى نفسها

+ الخط -
الموت لا يعني لنا شيئاً. نكون فلا يكون. الموت لا يعني لنا شيئاً. يكون فلا نكون.
(محمود درويش، "لا تعتذر عما فعلت" صفحة 60).
أتذكر... كيف جاءت القصاصات الأولى وجيزة ومقتصدة في التفاصيل. "مات محمود درويش". يا الله! كم كان الخبر قاسياً تلك الظهيرة القائظة. كما كان النبأ موجعاً. كم كان هذا الموت البليد غادراً.
مات الشاعر. كما لو كان يكتب إحدى قصائده الحديثة، بلا مقدمات تقريباً. بإيجاز فاتن. بكثافة قصوى. بمسحة غموض ضروري. بحرص على الانتباه للمفارقة دائماً (الموت في أميركا)، فقط بلا تفاصيل تحتفي باليومي، كما كان يفعل عادة في نصوصه الأخيرة.
كان الخبر القصير بطعم الفجيعة: "مات محمود درويش". هكذا بحياد ماكر وجفاء غريب، وما يشبه خيانة معلنة، تؤبن اللغة أحد ساحريها الكبار. هكذا، إذن، لا مجال للمجاز، ولا للقراءات، ولا للتأويل، ولا مكان للعب بالكلمات.
كان على فلسطين أن تشعر بيتم مضاعف، وهي تفقد صوت وحدتها، في زمن لم تكن فيه البندقية الفلسطينية قد اختارت من هدف سوى صدر فلسطيني آخر، ولم يستبح الدم الفلسطيني سوى دم من "فصيل" آخر للسلالة نفسها.
كان على الشعر أن يتدثر بالسواد، وعلى القافية أن تعلن حداداً مستحقاً. وللإنسانية أن تحزن ملياً، وأن تتحسس أن ثمة شيئاً قد انكسر جنوب روحها.
ثم كان على "شعب محمود درويش" أن يستشعر هول الغياب، وأن يختبر عالماً خالياً من استعارات قصيدته، حيث البرتقال ليس وطناً طازجاً في ذاكرة الطفولة، وحيث الزيتون ليس دليلاً على هوية جريحة. حيث الخبز ليس حنيناً لرائحة الأم. حيث الأندلس ليست عنواناً آخر للفقدان.
أما عن محمود درويش نفسه، ففقط أصبح بإمكانه أن يجرب حلمه الأقصى بأن تعيش قصيدته حياة ثانية، حياة أخرى، بقراء يهتمون بالشعر لا بشرطه التاريخي، أن يتنصل من شرطية التاريخ، وأن يتأمل قصيدته تحلق بعيداً في سماء الخلود، أن يتحرّر من "الحب القاسي"، ومن القراء الذين يبحثون وسط القصيدة عن جذوة "البيان السياسي"، وأن يتخلص من القراء الذين يصرون على أن "الحبيبة" ليست بالضرورة سوى فلسطين. أن يجاور صديقه الحميم أبو الطبيب المتنبي، وأن يطلا معاً على عبور الشعر لتعاقب الأزمنة، وعلى انتصار المعنى وسحر الكلمات وحقيقة الحداثة.
مرت سبع سنوات إذن. ومازلنا نقرأه قصيدته بدهشة القراءة الأولى نفسها.
ثم نبحث عن محمود درويش "المغربي"، عن القراءات الأكثر جماهيرية في تجربته، عن جمهوره الاسثتنائي، عن صداقاته في الشعر والحياة، عن الرباط حيثُ "رائحة الحناء والبخور والعسل".
ونمارس تمرين استعادته بأوجهه المتعددة. كل من زاويته الخاصة، السياسيون منا سيستعيدون محمود درويش رمز الثورة وأيقونة النضال الفلسطيني، أحد قادة الحركة الوطنية ومدبج إعلان الدولة الفلسطينية. المثقفون منا سيستعيدون محمود درويش الذي يدبر المسافة الضرورية للشاعر مع القيادة السياسية: وهو يستقيل من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عام 1993، ملوحاً بتلك الجملة الصغيرة والكثيفة: "دفاعاً عن الثقافة، وليس ضد السياسة"، معتذراً لصديقه الكبير أبو عمار عن قبول منصب رسمي في السلطة. العشاق يستعيدونه في قصائده "درس من كاماسوطرا"، "ليتني كنت أصغر" و"في الانتظار"، وفي الكثير من شعره الجديد المليء بالحب والحياة. ثم نتفق جميعاً، في الأخير، على أن ثمة أسطورة تحمل هذا الاسم الخالد، أسهمت في صياغة الوجدان الجماعي لأجيال وأجيال من الباحثين عن الحرية والجمال، وفي بناء مخيالهم المشترك.
مرت سبع سنوات إذن. ذهب طغاة كثيرون إلى الجحيم، وانتصرت الأغنيات.



2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي