عودة "الزنّة": تراث عثماني للرقص الذكوري

16 فبراير 2015
عودة "الزنّة"
+ الخط -
تطلق كلمة رقاصة المشتقة من اللغة العربية، في اللغة التركية، على من يمارس مهنة الرقص الشرقي من النساء، لكن المختلف هو أن اللغة التركية التي لا تعرف التذكير أو التأنيث تستخدم كلمة رقاص للإشارة إلى من يمارس هذه المهنة من الرجال. وكانت مهنة الرقاص قد اندثرت بعد تكوين الجمهورية التركية الحديثة وإنهاء الخلافة، لتعود مرة أخرى وبقوة بعد وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم على الرغم من سياسات الأخير المحافظة.

عماد (اسم مستعار)، في أواخر العشرينيات، يقول لـ "العربي الجديد" إنه يمارس فن الرقص مذ كان في الخامسة عشرة من عمره، مشيراً إلى "أن الفكرة في تركيا أو في العالم عن الرقاص أو الزّنِّة (اللغة العثمانية) هي أنهم شباب يعملون في الدعارة، وهذا غير صحيح". ويضيف "أعيش من الدخل الذي يوفره لي هذا الفن الذي أحب".

يؤكد عماد، الذي تعود أصوله لإحدى مدن شرق تركيا، أنه يستطيع أن يمارس حياته بشكل طبيعي في مدينة إسطنبول دون أن يتعرض لأي إزعاج، وتتم دعوته لإحياء حفلات منزلية بشكل مستمر سواء منازل العائلات العلمانية الكمالية أو حتى العائلات المتدينة المحافظة، بمناسبات عديدة كحفلات أعياد الميلاد والزفاف أو الحنّة أو حتى حفلات الاحتفال بختان أطفال العائلات المحافظة، ولكن أغرب شيء صادفه هو أنه دعي لإحياء حفلة أقامتها إحدى السيدات بمناسبة طلاقها.

وانتشرت ثقافة الزنّة أو الرقاص من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر، حيث كان يتم جلب الزنة كصبيان صغار من سن السابعة يتم تدريبهم على الرقص وارتداء ملابس الإناث، يُختارون من بين غير المسلمين عبر ما يعرف بضريبة الدم أو الأفراد، وهي عادة عثمانية يتم فيها أخذ أطفال صغار من أسرهم من القبائل السلافية كضريبة عن الأفراد، يتم تحويلهم بالقوة إلى الإسلام ليدخلوا إلى الجيش الانكشاري كعسكر أو يتم استخدامهم بأغراض أخرى كالرقص.

وكان الزنّة يعزف على الآلات ويرقص للرجال بالحانات والقصور السلطانية، ويضع أدوات التجميل كالنساء تماماً. وفي العام 1837 ومع انتشارهم وتقاتل الناس عليهم من أجل الظفر بهم بالحانات، منع السلطان محمود الثاني الرقص بالحانات حتى لا يتحول الأمر لفوضى، خاصة مع تحول الزّنّة إلى سلطة كبيرة دفعت بعض الجواري لقتلهم بسبب حظوتهم بالقصور السلطانية على الجواري.

ألغى السلطان عبد المجيد الأول، في إطار الإصلاحات العثمانية (التنظيمات) عام 1858، العقاب على الممارسة المثلية حتى، وأصبحت الممارسة المثلية أمراً لا يعاقب عليه القانون الذي كان قد تمت علمنته، وألغيت مواد الشريعة الإسلامية منه وأحضرت القوانين الفرنسية والألمانية باستثناء قانون الأحوال الشخصية، ليستمر الأمر حتى الآن، فالقانون التركي يتجنب الإشارة إليهم، لكن لا يقر بحقوق المثليين.

ويؤكد عماد الذي يعمل أيضاً كعارض أزياء بأنه يمارس الرياضة بشكل يومي للحفاظ على ليونة جسده ويفضل اليوغا، كما أنه رقص في العديد من المدن والبلدات الساحلية على البحر المتوسط مثل مدينتي بودروم وفتحية في أنطاليا، قائلاً: "إن السياح الأجانب أيضاً يستمتعون بوصلات الرقص التي كنت أقدمها، ولأكون صريحا معك إن الزبائن الأتراك والسياح العرب هم من يضمنون استمرارية هذا الفن، حيث يشكلون أغلبية زبائننا".
تقدم وصلات الزِّنّة، في إسطنبول، بشكل أساسي في الملاهي الليلية الراقية التي يرتادها مليارديرات ومليونيرات تركيا، مثل ملهى الجمال أو ملهى جاهدة أو ملهى ظريفي، ويعتبر "ديفا" أو "علي مراد شاهينر" أحد أعلام الزّنّة في المدينة، والذي ليس لديه أي مشكلة في الكشف عن هويته، إذ إن عائلته تعلم أنه يمتهن الرقص منذ بداية الألفينات في أحد ملاهي مدينة بودروم على البحر المتوسط ويعيش الآن في إسطنبول، حيث يكسب رزقه من هوسه بهذا الفن كما يقول.
ويؤكد ديفا أن "عائلته عارضت هذه المهنة في البداية لكنهم يتفهمونها الآن بشكل جيد، فبعد ظهوره على التلفزيون لم يعد أمرا ممكنا أن يخفي هويته أكثر من ذلك"، مضيفاً: "الرقص فن يمنحني الكثير من الرضا عن الذات، إنه كأي فن آخر، قد يعمل بعض الزنة في الدعارة لكن ليس جميعهم، وأنا أحاول تجنب الإيحاءات الأيروتيكية، لكن نعم هناك لحظات أيروتيكية، لكنها في النهاية أحد المشاعر التي يمنحني إياه الرقص بالتفاعل مع المشاهدين".
ويرقص الزّنة عراة الصدر ويرتدون ملابس تشبه إلى حد ما ملابس الراقصات في المشرق العربي، لكنها مكونة من بناطيل مع أساور قماشية والكثير من الإكسسوارات حول الرقبة، وامتد هذا الفن في الفترة الأخيرة عبر المهاجرين الأتراك إلى أوروبا، إذ يعتبر "زاديل" أو محمد شاشماز أشهر راقصي الزّنّة في ألمانيا، ويقدم وصلاته في مسرح زاديل في العاصمة برلين، حيث يتقاضى خمسمئة يورو عن كل عشرين دقيقة، وأكثر من ذلك يؤكد زاديل أنه سعيد جدا بمهنته التي وفرت له الكثير من المتعة ودخلا شهريا مريحا، إضافة إلى فرصة السفر إلى الكثير من دول العالم لإدارة دورات تدريبية في مجال الرقص.
وعن تقبل القسم المحافظ من المجتمع لهذه المهنة أو هذا الفن، يؤكد زاديل: "أنا أحترم آراء الجميع، هناك أحكام مسبقة عن جميع الفنانين حول العالم، وأنا أتشرف بمهنتي كراقص، خاصة وأنها تمنحني الكثير من الخصوصية على اعتبار أن أعداد المقبلين على هذه المهنة قليلة مقارنة بباقي المهن".
يرقص الزِّنِّة اليوم بحركات أكثر ذكورية تأكيداً على أنهم راقصون ذكور، وليس تشبها بالراقصات الإناث كما كان في العهد العثماني، وبينما يحاول العدالة والتنمية استعادة التاريخ العثماني لتكوين روح دولة قوية حديثة تسعى لاستعادة أمجاد سلاطينها عبر انتهاج سياسات محافظة، أثبتت تجربة الزنة أن التاريخ لا يمكن استعادته بطريقة انتقائية على مزاج الساسة.

دلالات
المساهمون