عن منطق التاريخ ومنطق الطغاة

26 مايو 2015

يسير الطاغية، حرفياً، على خطى من سبقوه (Getty)

+ الخط -
يسجّل التاريخ، أن أول تمرد على السلطة حدث في مصر عام 2740 قبل الميلاد خلال حكم الأسرة الفرعونية الثانية. ومنذ ذلك الوقت، سقط فرعون تلو آخر وبقي الشعب، وتلك هي حكمة التاريخ، التي لا يقرأها الطغاة، ولو قرأوها لما استبدوا ولا بطشوا. يخبرنا التاريخ، أيضاً، أن مصائر غالبية المستبدين معروفة سلفاً، الهرب أو السجن أو الهلاك. وبغض النظر عن النهايات، لا يذكر التاريخ المستبدين والطغاة إلا بكل سوء، ويضع أسماءهم تحت يافطة كبيرة مكتوب عليها "هنا يرقد الطاغية". ولو أدرك هؤلاء منطق التاريخ، لاتخذوا منه عبرة وعظة، لكنهم غارقون حتى الثمالة في "سكرة" السلطة. 
قائمة السلطويين الذين طُردوا من السلطة طويلة، ولا يكاد يخلو تاريخ أي بلد حديث من النضال والصراع بين الشعب والسلطة. بل يمكن القول، إن هذا الصراع جزء أصيل من طبيعة الدولة الحديثة التي هي، بطبيعة نشأتها وبنيتها، دولة تسعى إلى السيطرة بوسائل وطرق مختلفة، سياسية أو اقتصادية. الأكثر من ذلك، أن كل الديمقراطيات الحديثة التي نراها، اليوم، لم تنشأ وتستقر إلا بعد صراع مرير، كان، في معظمه، صراعاً دموياً بين السلطة والشعب، انتصر فيها الأخير. خذ مثلاً الثورة الإنجليزية (1642-1649) التي أنهت حكم الملكية والارستقراطية الإقطاعية، ورسخت حكم الشعب عبر البرلمان، والثورة الهولندية التي أنهت حكم الإسبان، ووضعت أسس الحكم الديمقراطي، والثورة الفرنسية التي أطاحت رأس لويس السادس عشر وزوجته ماري انطوانيت، وكذلك فعلت الثورة الأميركية وبقية الثورات التي قامت فى الدول الغربية، ناهيك عن ثورات أميركا اللاتينية.
صحيح أن ثمة ثورات أخرى فشلت فى إنهاء الاستبداد، لكنها كانت وبالاً على الجميع، حكاماً ومحكومين. فلم ينعم بلد بالاستقرار أو الأمن أو الرخاء وهو يئن تحت وطأة الحكم السلطوي. ولم تستقر الأرض من تحت أقدام المستبدين، على الرغم من استخدام القمع الإقصاء، حتى في أكثر الأنظمة تسلطاً وشمولية، كما كانت الحال تحت حكم الاتحاد السوفييتي الذي استمر أكثر من 50 عاماً، انتهى بعدها بسقوط مدوٍ. ولم تفشل ثورة إلا وحملت معها آثار الفشل لمن هو في السلطة، وليس فقط المعارضة. انظر فقط إلى الأوضاع في سورية وليبيا واليمن ومصر، لتكتشف أن الجميع خسر، وإن بدا عكس ذلك. صحيح أن الثورة لم تنتصر بعد، لكن الطغاة، أيضاً، لم يربحوا السباق، ولا تزال المعركة دائرة حتى حين.
في منطقتنا، يسير الطغاة عكس حركة التاريخ ومنطقه. يحاربون التغيير بكل قوة، ويدعمون القمع والإقصاء بأحدث الأساليب الإجرامية، من سحل وقتل وتعذيب. يحاولون إيقاف قطار التاريخ من المضي قدماً، ويسعون إلى تحويل مساره باتجاه مصالحهم وأهدافهم، وأهمها البقاء في السلطة. يستخدمون كل الحيل والألاعيب، لتعطيل رغبة الشعوب فى الحرية، تارة باستخدام فزاعة "الحرب على الإرهاب"، وأخرى باستخدام مقولة "أنا أو الفوضي"، وتارة ثالثة بالكذب على الشعوب باسم التنمية والاستقرار. فعلها عبد الناصر وهُزم، وفعلها السادات وقُتل، وفعلها مبارك وخُلع، ويفلعها الآن السيسي، ولا يخالجني أدنى شك في أن مصيره سوف يكون أسوأ ممن سبقوه.

لا يدرك "طاغية" مصر الجديد أن الزمن قد تجاوزه وتجاوز أفعاله وأساليب حكمه المتهافتة، ولا يعرف أنه، مهما استبد واعتقل وعذّب وسحَل وقتَل، لن يطفئ جذوة للتغيير أشعلتها نفوس ثائرة، واحتضنتها قلوب طامحة، ورعتها عقول متمردة، فأطاحت من كان أشد منه بأساً وقوة. ولا يدرك أن هذا الشعب، وعلى عكس ما يشيعون عن صمته وخنوعه، أنه إذا انتفض ثأر، وإذا تحرّك انتصر، وإذا غضِبَ أخاف وزجر. يحاول الطاغية، أن يزرع بذور الفتنة والشقاق في صفوف الشعب، على طريقة "فرّق، تسد"، وتحاول أذرعه الإعلامية بث الخوف في نفوس المعارضين، حتى يصمتوا ويتراجعوا. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال كثيرون صامدين، يرفضون العودة إلى حظيرة الاستبداد.
يسير الطاغية، حرفياً، على خطى من سبقوه، ويستقي معلوماته وتحركاته من "كتالوج" الاستبداد، من دون تجديد أو إبداع، يوهم نفسه بأنه المسيطر على الأرض والشعب، وأنه بعد أن ينتصر سوف يكتب التاريخ حسب هواه، غير عابئ في ذلك بمشهد النهاية، وغير مبالٍ بحكم الشعب عليه. ولكنه يتجاهل، بحماقة وغرور، منطق التاريخ الذي يؤكد أن السلطة، مهما بطشت، زائلة، وأن الشعوب، مهما صمتت، باقية، وأن القمع مهما ساد، لن يهزم الرغبة في التحرر، وهو ما سيحدث قطعاً، آجلا أم عاجلاً، وهو الأقرب.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".