لهيب الحرارة منعنا من الخروج للتريض أو الذهاب للكافتيريا من أجل التسوق، يوم الثامن من يونيو/حزيران 2014، كتبنا ما نريده من مشتريات في ورقة صغيرة، وأعطيناها لـ "نادية فتحي"، باعتبارها أكثرنا نشاطًا وحرصًا على شراء المثلجات والعصائر.
ولأن نادية ليست كباقي المعتقلات، فلا يجب أن يذكر اسمها بشكل عابر، فتصرفات المرأة ومشاعرها المتراكبة تجبر من يتعامل معها على الاستزادة من سيرتها الذاتية بالتقرب إليها، تلك المرأة قصيرة القامة، متغيرة الانفعالات، كثيرة الكلام، وجهها خال من التجاعيد أو أي علامات تظهر تأخر سنها التي تجاوزت خمسة وأربعين عاما، لها "لازمات كلامية مميزة"، ولحن لفظي بتطويل بعض الكلمات والجمل، بلغتنا الشعبية "بتمطّ في الكلام"، لمثلها قيل "إن كيدهن عظيم"، فالمبارزة النسائية كانت على أشدها في معظم المشادات الكلامية التي هي طرف رئيسي فيها. تهتم بأناقتها وبشرتها واقتناء أغلى الكريمات، تنميق أغراضها الشخصية بشكل يومي، هي باختصار "كركتر" لمرأة تحب أن تجرب كل شيء، وأي شيء، حتي في المعتقل، فالعمر "لحظات" يجب ألا نتركها قبل استنفاد كل الفرص المتاحة والمباحة لنا فيها.
نادية ضمن طاقم المعتقلات في قضيتي، وحكم عليها بسنة وغرامة 50 ألف جنيه، في بداية معرفتي بها وجدتها تتودد إلي بشكل مبالغ فيه، وبالتابعية جاءت تلك المعاملة الطيبة التي رأيتها بعيني وقتها غير مبررة، بما لا تشتهيه السفن، فأنا ممن يملن إلى التدرج في العلاقات، لا إلى المبالغة التي قد تثير الشك في صدق الآخر، ولم تتغير مواقفي تجاهها إلا بعد ترحيلنا إلى سجن القناطر.
لا تعرف أن تأخذ من تلك المرأة موقفاً جادّاً، فطريقتها ذات الطابع الكوميدي وانفعالاتها غير متوقعة تنقلك من دائرة غضبك إلى قهقهات من الضحك المتواصل، كثيراً ما تنشب المشادات بسبب عفويتها في نقل آرائها عن هذه وتلك، وكثيراً ما تحاول الدفاع بتكرير القسم ثلاث مرات "طب والله... والله.. والله"، لدرجة جعلتنا نرددها مثلها في مواقف شبيهة، لإيقافها عن التبرير وإنهاء الأمر، قبل أن يأخذ ساعات من العبث والجدل اللفظي.
كانت من أبرز المترددات على حمام سجن القناطر إلى حلقات "الثرثرة اليومية" لمعرفة مستجدات الأحكام لقضايا رفيقاتها الجنائيات، والتي توطدت علاقتها بهن، إلى درجة جعلتهن يتسللن من وراء ظهور "النبطيشات" لتبادل النكات وأحاديث الفرفشة قبل موعد النوم "التمام".
نادية ليست من الإخوان أو أي فصيل إسلامي، بل كانت ترى فيها بعض التشدد حسبما تجد، وتميل إلى الجنائيات باعتبارهن من وجهة نظرها وبطريقتها "طيبين وبيحبوا بعضييهم"، كان الحب هو الأفيون الذي لا تكف عن تناوله، وتحب من يبادلها إياه، بل يصبح عندها بمكانة. "فسماح حبيييبتي، ومنى حبيييبتي" وكل اسم لا بد أن يسبقه لقب "حبيبتي". لا تكف عن حكاية زاوجها بـ "خالد"، والتي بدأت بنظرة أمام المحطة وانتهت عند مأذون، وابنتها خلود التي لم تتجاوز 14 عاما، بعد أن خصصت لها أغنية استبدلت فيها كلمات إحدى الأغاني الوطنية باسمها، فتقف وسط الزنزانة وتردد "يا أحلى اسم في الوجود ... يا "خلود".
الثنائي "خلود وخالد" مصدر سعادة أو تعاسة تلك المرأة، فابنتها خلود قبض عليها معنا، وفي القسم تم إخلاء سبيلها على الفور بعدما ظلت نادية تستجلب عاطفتهم "لسه صغيرة حرام عليكم.. خدوني أنا.. احبسوني بس بلاش هي". كنت أتعجب من تذللها أمامهم، فقد كانت لتقبّل الأقدام من أجل ترك ابنتها. قد تفعل الأمومة أكثر من ذلك، كانت تهتم بهدايا زوجها "شوفوا جابلي إيه؟ عاجبتك الحاجات يا سماح.."، فأضحك وأجيبها "المهم تكون عاجبتك إنتي يا نادية"، كانت تحب أن أناديها باسمها من دون ألقاب، وتفرح بأقل القليل مثل الأطفال.
لنترك نادية ونعد بحديثنا إلى يوم الثامن من يونيو/حزيران 2014، كنت ممددة على سريري أتأمل من حولي، وكانت الشمس تميل إلى الغروب، شيماء أحمد (19) سنة كانت ترتب الغرفة كعادتها، وعلى السرير المقابل كانت تقرأ هبة كردي بمصحفها وتراجع ما حفظته بعينها في صمت.
أما أسماء مختار بجوارها، وتبدو وكأنها تراجع دروسها، بينما عينها تفضح تفكيرها في شيء آخر، وكانت منى عبد الرحمن وليلى محمد، ربَّتي الزنزانة ومسؤولتين عن التغذية اليومية، فكانتا منشغلتين وقتها بطهي الطعام. أما الكبيرات في السن ممن تعدت أعمارهن الخمسين، أمثال الحاجة نعيمة وسامية شنان ونجاح أحمد، فقد اعتدن الجلوس بجوار باب الزنزانة المطل على ساحة التريض يقرأن الأذكار وبعض المأثورات عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في ذلك التوقيت، أما هند منير، فتفضل قراءة كتاب، وهي وشقيقتها رشا منير من مدمنات الاستماع إلى الأخبار عبر موجات الراديو.
هبة نجم ومروة أبو ضيف وسميرة فايز، يجلسن في حالة استرخاء على سرائرهن، وهاجر طاهر وكريمة الصريفي في المحكمة لحضور الجلسات القضائية الخاصة بهن، أما طالبات الأزهر الأربع؛ وهن دارين مطاوع وفاطمة بهاء الدين وعائشة فؤاد، وعائشة عبد الحفيظ، فكن يتجاذبن أطراف الحديث وهن يصنعن "حظاظات رابعة" وأشغالأ يدوية إعمالاً لمقولة "اليد البطالة نجسة".
وبينما كل واحدة منا في صمت تام، إذ بصوت نادية وهي تصرخ وقد خُلِع منها حجابها وتنظر خلفها متوعدة بقولها "والله لورّيكم"، ثلاث مرات كعادتها، وعلى وجهها آثار ضرب..
انتفضنا نحوها مهرولات: "مين اللي بهدلك كده؟"
نادية: "بنات الأزهر في عنبر "العسكري" بينضربوا، السجينات استعانوا بجنائيات عنبر الآداب وماسكين العصي والشوم ومبهدلينهم.
(مصر)