استعراض سريع لقائمة أسماء المرشّحين المفترضين لخلافة محمود عباس، يكفي لوضعنا وجهاً لوجه مع حضيض حالتنا الفلسطينية الراهنة. ولأن "الأعمار بيد الله"، كما يقولون، ولأن رئيس السلطة الثمانيني ربما يشعر بأنه سيعيش أبداً، فإنه لا يزال يرفض وضع ملف خلافته على نار حامية، متوهماً بأنه قادر على حسم هوية سيّد المقاطعة في مؤتمر حركة فتح الشهر المقبل، من دون تعيين نائب له يتولى المهمة بعدما يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
هكذا، تبقى الساحة مفتوحة لـ"إسرائيل" ولكل حاكم عربي وأعجمي لدراسة أولوياته حيال المرشحين المحتملين، من دون أن يكون للفلسطينيين أنفسهم، في مخيمات الشتات وفي الضفة والقطاع، كلمة في النزال، وهنا يكمن الوجه الثاني لحالة الحضيض.
كل شيء تمّ ترتيبه، منذ تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، أيام أبو عمار، ليكون رئيسها معيناً بموجب جملة من التوافقات الداخلية ــ الإسرائيلية ــ العربية ــ الأميركية، على اعتبار أن القضية الفلسطينية هي المسألة الأكثر تدويلاً على وجه المعمورة.
وما ربط شروط خروج الرئيس العتيد من رحم منظمة التحرير (وتالياً حركة فتح) ولجانها، سوى إخراج فني لوجوب أن يكون الرئيس ابناً شرعياً لمشروعية مرحلة اتفاقات أوسلو، وحارساً أميناً للتنسيق الأمني وعقيدة "التفاوض من أجل التفاوض" الاستسلاميَّين لمصلحة إسرائيل، ورفض خيار المقاومة وربما حتى المقاطعة، وإلا لكان دستور السلطة نصّ على انتخاب مباشر من الشعب لرئيس بلا قيد الانتماء إلى منظمة تحرير أو حركة قائدة للمنظمة.
واليوم، يظهر أن الشروط المذكورة أعلاه متوفرة بنسب شبه متساوية في الأسماء الرئيسية المطروحة في "السوق الرئاسي" الفلسطيني. أكان ناصر القدوة أو محمد دحلان أو أحمد قريع أو جبريل الرجوب أو صائب عريقات أو ماجد فرج، جميعهم أبناء "السيستم" الفلسطيني ــ العربي الرسمي ــ الإسرائيلي. جميعهم يدّعون حمل مشروعية ياسر عرفات، وحركة فتح، ومنظمة التحرير، وهمّ/وهم السلام و"العملية التفاوضية"، وبُغض المقاومة، والارتباطات الإسرائيلية والعربية ــ الرسمية والأميركية، في ظل بقاء شخصيات تمثل نبض الشارع الفلسطيني فعلاً، مثل مروان البرغوثي، في الأسر لدى الاحتلال، ربما كوديعة من قيادة سلطة رام الله في السجون الإسرائيلية، مثلما هو حال أحمد سعدات مثلاً وأيضاً.
وبين الأسماء الستة المطروحة، سيكون الخيار الأميركي ــ الإسرائيلي ــ العربي الرسمي صعباً، لأنّ العالم يدرك أنّه يمكن تجاهل فلسطينيي الداخل والشتات في تعيين رئيس للمقاطعة، لكنه يستحيل القفز فوق حساسيات داخلية، بعضها ناجم عن أمراض اجتماعية ــ مناطقية، قد تفجّر "ولاية" الرئيس الجديد في يومها الأول.
وتتكفل متابعة سريعة لما يُنشر في الإعلام الفلسطيني والعربي عن ثرثرات معركة خلافة محمود عباس، بكشف البعض من المعايير المتخلفة للرئاسة، حتى بالنسبة للرأي العام الفلسطيني والمؤسسات المتحدثة باسمه زوراً في السلطة. المرشح الفلاني ابن الضفة أو ابن غزة هو معيار أول متخلف يُظهر كم نجح الاحتلال في إخراج أسوأ ما لدى شعبنا من انقسامات إلى السطح. ابن عشيرة كبيرة أو نسب مغمور؟ ارتباطاته بالأنظمة العربية الرسمية أو بالدوائر الإسرائيلية والأميركية هي الأقوى؟ سنّه صغير أو من جيل "المؤسّسين"؟ متموّل؟ ابن مخيم صار رجل مافيا أو سليل إقطاع؟...
نادراً ما وقف الفلسطيني أمام بؤس يوازي ما يعيشه اليوم في أجواء معركة خلافة عباس. كثيراً ما كنا نعتبر أنه لا يمكن أن يأتي أسوأ من أبو مازن إلى قيادة سلطة مقاطعة رام الله، لكننا اليوم نتيقّن مجدداً أنه ليس هناك قاع في مأساتنا الفلسطينية، لدرجة أنه يحتمل، لا بل يرجَّح، أن نقف غداً لنترحّم على عهد محمود عباس.
* صحافي فلسطيني/ بيروت