عن قيام منظمة التحرير ولإنعاش الذاكرة

12 فبراير 2015

عبد الناصر وياسر عرفات في القاهرة في 1969 (Getty)

+ الخط -

لوحظ أن لدى بعضهم، من الطبقة السياسية الفلسطينية، ضآلة معرفة بتاريخ القضية التي ينبغي أن يعرف تفصيلات تفصيلاتها، طالما أن هؤلاء يعملون في السياسة. فمن المعلوم أن كثيرين، ممن يتصدرون المشهد الفلسطيني، قلما يقرأون. لكن الأمر الصادم، بخلاف ضآلة معرفتهم بتاريخ بلادهم، القديم والحديث، هو شُحّ معرفتهم بالتاريخ المعاصر الذي عايش بعضهم أحداثه التي وقعت في حياته. ويجدر، هنا، أن نتناول حدث تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1964 وأن نعرض بإيجاز أسبابه ومقدماته وسياقاته ومآلاته. ونسمع مراراً، أقولاً ركيكة، كلما اضطر بعضهم للإشارة إلى التاريخ السياسي لحركة النضال الفلسطيني. والطامة الكبرى، عندما يتعلق الأمر بحدث تأسيس "المنظمة"، وكأنه وقع في القرون الوسطى!

في نوفمبر/ تشرين الثاني 1963 تحدث الإعلام الإسرائيلي عن مشروع كبير وخطير، لتحويل مجرى مياه نهر الأردن، باستباق وصوله ومروره إلى أراضي الضفة، وجعله يمر من قلب فلسطين المحتلة، ويتفرع إلى خطين في النقب، توطئة لجلب مليوني مستوطن جديد من روسيا وبلدان شرقي أوروبا. كان معنى ذلك، في رؤية جمال عبد الناصر، مضاعفة قوة إسرائيل، اقتصادياً وديموغرافياً وعسكرياً، على النحو الذي يهدد الأمن القومي العربي، ويُكرّس الاحتلال. وكانت لدى الرجل انتباهته الخاصة لمنطقة النقب التي جعلها موضوع التخرج من كلية رئاسة الأركان العامة، وهي انتباهة معطوفة على تجربته الشخصية، كضابط عايش الانهيار السريع والمريب، لقوة الدفاعات العربية في النقب، خلال المرحلة الأخيرة من حرب 48، على الرغم من وقوع النقب ضمن حدود الدولة الفلسطينية في مشروع تقسيم فلسطين!

في يوم 23 ديسمبر/كانون الأول 1963، كان لعبد الناصر موعد مع الجماهير في بورسعيد، احتفالاً بما كان يُسمى "عيد النصر"، وهو ذكرى جلاء القوات التي شاركت في العدوان الثلاثي العام 1956 عن مدينة بورسعيد وسيناء. في ذلك المساء، شرح عبد الناصر المخاطر الكامنة وراء هذا المشروع، وكان رأيه أن اللحظة تستوجب عقد قمة عربية عاجلة في القاهرة (وهي القمة الاعتيادية الأولى، وكان هناك قبل ذلك قمتان طارئتان، في الإسكندرية في مايو/أيار 1946، وفي لبنان في نوفمبر/تشرين ثاني 1956). وأوضح عبد الناصر أن الأمر يستوجب التجاوز عن الخلافات العربية ــ العربية، وقال بالحرف، وبعاميته المصرية: "اللي متخاصمين معاهم علشان فلسطين حنقعد معاهم". وما هي إلا ثلاثة أسابيع، حتى التأمت القمة في مقر جامعة الدول العربية، وكانت حدثاً مبهجاً. ففي يوم الاختتام، وهو غُرة شهر رمضان 1383هجرية، أعلنت دول العرب المستقلة آنذاك، الغنية بالبترول (السعودية، الكويت، ليبيا) عن دعم مالي معتبر لعملية التهيؤ لمنازلة إسرائيل، وكانت أعلى المبالغ، من الملك الليبي إدريس السنوسي، الذي كان مريضاً، فأمر عبر الهاتف، ولي عهده الحاضر، الحسن الرضا، إعلان مبلغ التبرع في القمة. يومها، وعلى المائدة، تمنى عبد الناصر للحاضرين إفطاراً شهياً!

جاءت المقررات شاملة، وإن كانت السياسات قد أجهضت سياقاتها، وأبرز هذه القرارات، استباق وصول مياه نهر الأردن إلى فلسطين المحتلة، وتحويل مجرى نهر الحاصباني الذي ينبع من حاصبيا في جنوبي لبنان، وبانياس الذي ينبع من هضبة الجولان. لكن قرار "إبراز الكيان الفلسطيني" وحده الذي ظل ذا سياق، وإن تبدلت مضامينه، ثم وجهته. فقد دُعي المرحوم أحمد الشقيري، للقيام بجولة إلى أقطار التجمعات الفلسطينية، لاستمزاج الآراء، والاتصال بالشخصيات الفلسطينية الاعتبارية، وذات التاريخ النضالي في فلسطين، وتشكيل مجلس وطني فلسطيني قومي، وتقديم نتائج عمله إلى مؤتمر ثانٍ، يُعقد في الإسكندرية في الخامس من سبتمبر/أيلول من العام نفسه. وكان ثمة فندق كبير تحت الإنشاء في الاسكندرية، خُصص لاحتضان القمة بعد إنجازه سريعاً، وسمي فندق فلسطين، ولا زال قائماً.

لم يكن أحمد الشقيري ممثلاً لجامعة الدول العربية، مثلما قال الرئيس محمود عباس في حفل افتتاح مبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون في رام الله. كان الرجل، قبل عامين من ذلك التاريخ، قد حلّ في موقع المرحوم أحمد حلمي عبد الباقي، ممثلاً لفلسطين لدى جامعة الدول العربية، وذلك بعد الاستغناء عن خدماته مندوباً دائماً للسعودية في الأمم المتحدة، على أرضية موقفه المعارض موقف الرياض من الحرب في اليمن، بعد قيام نظامها الجمهوري.

شهدت القمة العربية الاعتيادية الثانية حضور الشقيري رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي انتخبها المجلس الوطني الفلسطيني، في دورة انعقاده الأولى في القدس، في مايو/أيار 1964. وفي الحقيقة، وبخلاف ما روى الرئيس عباس، في خطابه في حفل افتتاح الذي أشرنا اليه؛ لم يكن صوت فلسطين، إذاعياً، غائباً عن المحطات العربية. ففي القاهرة ودمشق وبغداد، كانت هناك برامج لصوت فلسطين في المحطات الإذاعية الرسمية. وبعد

تأسيس المنظمة، أحيلت مسؤولية إعداد المواد الإذاعية وتقديمها في برنامج صوت فلسطين على موجات محطة "صوت العرب"؛ إلى منظمة التحرير الفلسطينية. ولم يتغير شيء سوى ذلك. وفي الإذاعة السورية، كان هناك صوت فلسطين الذي سطع فيه صوت الإذاعي والشاعر القومي الفلسطيني، يوسف الخطيب. لكن الجدير بالتنويه، هو التأكيد على خطأ القول إن صوت فلسطين كان مكتوماً. صحيح إن الفلسطينيين لم يكونوا قبل تأسيس المنظمة، ثم قبل انطلاق الثورة الفلسطينية يؤسسون إذاعات، وإنما يستخدمون إذاعات أسستها الدول، لكن الصحيح أيضاً، أن تلك كانت فترة مد قومي واعد، وكانت فلسطين شغل العرب الشاغل، ولم تكن بلا صوت، وإنما كانت تكمن في كل صوت، وكانت شريحة ال
نخبة الثقافية والفكرية والسياسية الفلسطينية نفسها تتوزع، قبل انطلاقة الثورة على الأحزاب العربية، يسارها ويمينها، ولم تكن القطرية في ذهن أحد. ولا يؤخذ وضع الفلسطينيين، آنذاك، بوضع "فتح" حركة صغيرة وسرية آنذاك، لكي يقال إن الفلسطينيين كانوا ملاحقين. فقد كانت الأبواب مفتوحة للفلسطينيين لارتياد الآفاق. البلدان والجامعات والمرافق والمطارات مفتوحة، ومراكز العمل في أقطار الخليج، المستقلة منها وغير المستقلة آنذاك، كانت مفتوحة وجاذبة ومجزية للفلسطينيين. أما الملاحقة، بلا عُسف، فقد كانت لحركة مجهولة، أو أُسيء فهمها لدى أنظمة عربية وقفت معها، بعد أن علمت بوجهتها ومقاصدها في أعقاب حرب 1967. وسبب الملاحقة قبل ذلك كان محدداً، وهو تحاشي التداعيات الميدانية والحرب مع إسرائيل، قبل التهيؤ لها، في أوقات كانت فيها تعديات إسرائيل محدودة، والهدنة راسخة. ومعلوم أن الرئيس عباس نفسه، يعارض، الآن، أي عمل فدائي، للأسباب نفسها، ولكن، في ظروف أسوأ، تتسم بتعديات إسرائيلية يومية، وانشطة استيطان وتهويد للقدس، ويتفهم موقفه كل من يعرفون بالتجربة ردود فعل إسرائيل، ويرون ضرورة تحاشيها، عندما تنفلت وتستفرد بالفلسطينيين دونما نصير لهم!

كانت تجربة مصر وسورية على هذا الصعيد ذات مفارقة مهمة، لأن أول تجسيد عملي لفكرة المقاومة والفدائيين، كان بمبادرة مصرية، عندما كُلف المقدم مصطفى حافظ بتشكيل كتيبة 141 فدائيين في غزة التي باشرت عمليات هجومية على الحدود، دفع مصطفى حافظ حياته ثمناً لها. وارتسمت المفارقة من التداعي الذي استفاقت مصر بسببه، على حقيقة ضعف القدرة العسكرية، بعد الهجوم الإسرائيلي الدامي على تجمع القوات المصرية في نقطة "البوليس الحربي"، جنوبي مدينة غزة (28/2/1955). فقد أدى الهجوم إلى دفع مصر إلى كسر احتكار السلاح (كانت مصر ملتزمة باستيراد السلاح من الغرب دون سواه). فقد اتجه عبد الناصر إلى الشرق. ولأن الكسر كان ذا وقع عميق، بمعايير تلك الأيام، فقد كان الاستيراد الأول للسلاح الشرقي، من التشيك قبل السوفيات الذين كان تعاون الحكومات العربية معهم خطاً أحمر آنذاك. وهنا، ارتسمت مفارقة أخرى، وهي أن التشيك كانوا هم الذين زودوا إسرائيل بأول صفقة سلاح بعد إنشائها، بل كانوا السباقين إلى التعاقد مع إسرائيل على بناء سلاحها الجوي، وتزويدها بطائرات "آفيا" و"سبيت فاير" قبل سبع سنوات من تزويد مصر بطائرات ميغ 15.

من حق حركة فتح أن تزهو بدورها وبإرثها الكفاحي، لكن الحيثيات التاريخية لا تدعم الافتراض أن العرب ساعدوا على إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، تحسباً لنمو حركة صغيرة وسرية آنذاك. وأي كلام غير هذا، إنما هو في سياق تعزيز القول بوجاهة سيطرة "فتح" على منظمة التحرير بعدئذٍ (في ربيع 1969). فلولا التغيرات الاستراتيجية والميدانية التي أوقعتها هزيمة 1967 واحتلال إسرائيل كل فلسطين وسيناء والجولان (وزيادة مساحة احتلالها خمسة أضعاف) لما ذهبت كل الجهود لتعزيز المقاومة وفتح مجالات العمل لها، وتمكينها من التحشيد العلني للفلسطينيين، وغير الفلسطينيين، في الأقطار العربية.