عن ضرورة المحكمة الدستورية في تونس

11 فبراير 2018
+ الخط -
مضت سبع سنوات من مسيرة الانتقال الديمقراطي في تونس، وانقضت أربعة أعوام من تاريخ التصديق على دستور الجمهورية الثانية، ولم يتم بعدُ التوصل إلى تشكيل المحكمة الدستورية. والحال أن المشرّع التونسي خصّص القسم الثاني من الباب الخامس الخاص بالسلطة القضائية  في الدستور لتحديد ماهية المحكمة الدستورية ومتعلّقاتها. ويتكون القسم المذكور من سبعة فصول، تتناول بالتفصيل تركيبة المحكمة واختصاصاتها وصلاحياتها والآثار الناجمة عن قراراتها. وتكتسب المحكمة الدستورية أهمّيتها من أنها ركن متين من أركان إقامة دولة القانون والمؤسّسات، وهي ضامن لعلوية الدستور، ولحماية المسار الديمقراطي، والمحافظة على النظام الجمهوري، وهي هيئة قضائية مستقلّة، تتركّب من اثني عشر عضوا، يفترض أن يكون أغلبهم من ذوي الكفاءة في مجال القانون. وتُعنى الهيئة بمراقبة الأداء التشريعي، وتأمين احترام الحقوق والحرّيات، والتوازن بين السّلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وفي مستوى تشكيل تركيبة الهيئة، يعيّن كُلّ من رئيس الجمهورية، ومجلس نواب الشعب، والمجلس الأعلى للقضاء، أربعة أعضاء، على أن يكون ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون. وتختص المحكمة الدستورية دون سواها بالبتّ في مدى دستورية القوانين، قبل دخولها حيّز التنفيذ أو بعده، وذلك بناء على طلب تتلقاه من رئيس الجمهورية، أو رئيس الحكومة، أو ثلاثين نائبا. ومن مشمولاتها النظر في مدى شرعية التعديلات المقترح إجراؤها على الدستور، والبتّ في دستورية المعاهدات الدولية التي تعرضها عليها مؤسّسة الرّئاسة، والنظر في التراتيب المتعلّقة بالنظام الداخلي لمجلس نواب الشعب التي يعرضها عليها رئيس المجلس. ولا تصدر المحكمة رأيا استشاريا، بل قرارا في أجل 45 يوما من تاريخ تعهدها بالنظر في القوانين مدار الطعن أو العرض. والقرار الصادر عنها يكون معلّلا وملزما لجميع السلطات. ومن ثمّة، المحكمة 
الدستورية جهاز قضائي نوعي، ومن روافد مأسسة الديمقراطية وتحقيق النزاهة والحوكمة داخل الاجتماع التونسي، وهي في حال تشكّلها وانطلاقها في مباشرة أعمالها ستكون نقلةً نوعيّة في تاريخ المنجز الدستوري لتونس الحديثة. وذلك لما تتيحه للقاضي الدستوري من صلاحيات، ولكونها لا تسمح بخرق الدستور، ولا بتمرير مشاريع القوانين، بطريقة فوقية أو استعجالية، استجابة لهوى الحاكم أو الحزب المهيمن أو الأغلبية النيابية، بل تضع مقترحات التقنين أو التعديل أو الطعن تحت مجهر التفكير الدستوري الموضوعي، المستقلّ والمختصّ. وتفارق المحكمة المذكورة بما تتمتّع به من صلاحياتٍ واسعةٍ، واستقلالية ظاهرة، المجلس الدستوري التقليدي الذي اضطلع بأدوار صورية قبل الثورة، وكان محدود الفاعلية، وموصولا بمؤسّسة الرئاسة. كما تمتاز عن الهيئة الوقتية الحالية لمراقبة مشاريع القوانين، بما تتوفّر عليه من اختصاصات جديدة، في مقدّمتها إمكان نظر المحكمة في مشروعية المعاهدات الدولية المبرمة مستقبلا، وفي دستورية النظام الداخلي للمجلس النيابي، وكذا إمكان المراجعة البعدية للقوانين المختومة سابقا، وفق ما تقتضيه روح الدستور. والسؤال بعد هذا أن لماذا لم يتمّ بعد تنصيب المحكمة الدستورية، على الرغم من أهمّيتها البالغة في تركيز البناء الديمقراطي، وعلى الرغم من تنصيص الدستور على ضرورة إقامتها في أجل سنة واحدة من تاريخ إجراء الانتخابات التشريعية 2014؟
يمكن تفسير تأخّر ظهور المحكمة الدستورية بعدّة أسباب، منها ما اتّصل بمحامل القانون الأساسي المتعلق بإحداث المحكمة الدستورية، ومنها ما تعلّق بحسابات الفاعلين في المشهد السياسي في تونس، يتضمن القانون المؤسّس للمحكمة المذكورة بعض الشروط التعجيزية، بل الإقصائية المتعلقة بعضوية المحكمة. إذ يشترط في القاضي المختار ضمن هذه الهيئة القضائية أن يكون "بالغا من العمر خمسة وأربعين سنة على الأقل، وله خبرة لا تقل عن عشرين سنة، وألاّ يكون قد تحمّل مسؤولية حزبية مركزية أو جهوية أو محلية، أو كان مرشح حزب أو 
ائتلاف لانتخابات رئاسية أو تشريعية أو محلية خلال عشر سنوات قبل تعيينه في المحكمة الدستورية". ومعلوم أنّ هذه الشروط الحصرية تقلّل من عدد المتقدّمين لعضوية الهيئة، وتحول دون رفدها بطاقات شابّة، بسبب مطلبَيْ التقدّم في العمر وطول الخبرة. كما تحرم قضاة وحقوقيين ومناضلين أكفاء من الترشّح لعضوية المحكمة، بحجّة أنّهم تحمّلوا مسؤوليات حزبية، أو ترشحوا لاستحقاقات انتخابية خلال السنوات العشر السابقة. والحال أنّ مزاولة النشاط السياسي، بأشكاله المختلفة، سلوك حضاري وحقّ مدني يكفله الدستور. ومن المعيب أن تصبح شبهة تمنع المواطن من الترشح لعضوية هيئة مدنية. وفي الديمقراطيات العريقة، لا يؤاخذ القاضي بانتمائه السياسي، فهو شأن شخصي. بل يؤخذ في الاعتبار مطلب الكفاءة العلمية والمهنية بالأساس. والثابت أنّ هذه الشروط الإقصائية تحدّ من عدد المترشحين، وتؤخّر ظهور تركيبة المحكمة، إذ من النادر أن تجد قاضيا خالي الذهن من خلفية أيديولوجية، أو من نشاط حزبي خاصّة بعد الثورة.
ومن الناحية السياسية، ما زالت الكتل الحزبية الفاعلة في مجلس نوّاب الشعب محكومة بهاجس المحاصصة، ولم تتوصّل بعد إلى توافق واسع، يضمن ترشيح أربع شخصياتٍ تحظى بتأييد الجلسة العامّة، وتباشر مهامّها في المحكمة الموعودة. كما يمكن أن يُفهم تعطيل ظهور المحكمة الدستورية بخشية بعض السياسيين من صلاحياتها الواسعة، وخوفهم من أن تتحوّل إلى "حكومة قضاة" تخطف الأضواء، وتحاصر السلطة التنفيذية وتراقب الأغلبية النيابية في البرلمان. لذلك بدت المنظومة الحاكمة مشغولةً بتعجيل تمرير بعض القوانين الخلافية، من قبيل قانوني مكافحة الإرهاب والمصالحة الاقتصادية وقانون المالية، قبل إنشاء المحكمة الدستورية التي كان محتملا أن تطعن في شرعية تلك القوانين لو كانت هذه المحكمة قائمة، وتلقت طلبا من 30 نائبا أو أكثر في هذا الخصوص.
بناء على ما تقدّم، المحكمة الدستورية المنتظرة هيئة رقابية تعديلية وازنة، تضمن احترام الدستور، وتحمي مشروع الدمقرطة الوليدة. لذلك الحاجة أكيدة إلى بلورة توافق يعجّل في قيامها، ذلك أنّ إحداثها سيعزّز المنجز الدستوري التحديثي في تونس، ويكون سببا في تعزيز الشفافية والحوكمة الرشيدة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.