عن سلاح الطهر السياسي واستخداماته النجسة (1/2)
يمكن أن نفهم في ضوء ذلك لماذا ارتبك الكثير من المصريين حين عرفوا أن بطلهم الشعبي أحمد عرابي ضعف في لحظة ما وطلب العفو من الإنجليز وندم على قيادته للثورة، واتهموا صحيفة (الأهرام) التي نشرت ما قاله بالتدليس والكذب، واتهموا فيما بعد الذين أصدروا مذكرات محمد فريد بالتزوير، حين أشارت المذكرات إلى وجود علاقة عاطفية بين مصطفى كامل وجولييت آدم، وقالوا إنها كانت صداقة بريئة لا يمكن أن تشوبها شائبة، ثم لعنوا بعد ذلك سنسفيل من أشاروا إلى اعتراف الزعيم سعد زغلول في مذكراته بأنه أدمن القمار في فترة من حياته، وبعدها فقد خليفته الزعيم مصطفى النحاس الكثير من بهائه ورونقه، حين ظهرت صور زوجته زينب الوكيل في حفلات السفارة البريطانية ضاحكة متأنقة، وتأثر الكثيرون من محبيه بالدعاية الصحفية المدعومة من القصر التي تقول إن النحاس لم يتمكن من "شكم" زوجته، وهو ما يمكن أن تربطه في فترة لاحقة بغضب الكثيرين من عبد الحكيم عامر لارتباطه بنجمة الإغراء برلنتي عبد الحميد مع أنه تزوجها بشكل شرعي، لكنهم رأوا أن قائد الجيش يجب أن تكون له نظرة أفضل فيمن يتزوجها، وهو ما فهمه عامر بالتأكيد ولذلك أصر على أن يظل زواجه ببرلنتي سراً لأطول فترة ممكنة، لأنه كان يدرك ثناء الناس على صديقه ناصر الذي لا يحب أن تظهر زوجته على الملأ أكثر من اللازم، وقد سبق أن أشرت فيما كتبته على هذه المدونة بعنوان "يوليو والنساء" إلى أن عبد الناصر ورفاقه في مجلس قيادة الثورة لاموا زميلا لهم في مجلس الوزراء لأن زوجته كانت تشترك في الحفلات وهي في أبهى صورة وقالوا له إن هذا سيذكر الناس بزينب الوكيل.
لاحظ هنا أن جمال عبد الناصر وأنور السادات وأغلب قيادات يوليو كانوا حريصين على التذكير من حين لآخر بدورهم في مقاومة الاحتلال الإنجليزي، وهو دور يستدعي على الفور صورة الطهر والنقاء، التي تفترض أن من يتصدى للعمل السياسي والمناصب القيادية، لا يجب أن يمتلك بداخله مكاناً للنقائص البشرية التي قد تصيب غيره، وحتى بعد أن دخلت مصر في مرحلة "السلام"، حرص حكامها على تصوير البلد بوصفها مستهدفة طيلة الوقت من الأعداء ومؤامراتهم، فبرغم أن الأعداء تحولوا إلى مانحين ومقرضين وحلفاء استراتيجيين، إلا أن قلوبهم ظلت مليئة بالحقد على مصر، وتخطط في الخفاء لضربها، ولذلك يتعاون معهم المعارضون الذين ليس لديهم المخزون الكافي من الطهر والنقاء، لأنهم طامعون في كرسي الحكم، بسبب ما يرتبط به من مصالح، أما الحكام القادمون من خلفية عسكرية أو أمنية، فهم خالون من الأطماع والرغبات الدنيئة، ويضحون بأوقاتهم واستقرارهم العائلي من أجل مصر، وما يحصلون عليه من معونات ومنح لا يستفيدون منه شيئاً، أما المال الذي يمسك به المعارضون فهو دنس وملوث أيا كان مصدره، لأنه يأتي من نفوس بها نوازع ودوافع وأطماع.
طيب، لماذا أقول أن فكرة الطهر السياسي مرتبطة بمقاومة الاحتلال تحديداً؟ لأنك حين تقرأ لمؤرخين مثل الجبرتي وابن إياس والمقريزي وابن تغرى بردي، ستجد إشارات متعددة إلى رضا عموم المصريين ـ عبر السنين الطويلة التي شهدت علاقتهم بالاستبداد ـ عن عدد من الحكام الذين أحدثوا فرقاً إيجابياً ملموساً في حياتهم، مع أنهم كانوا غارقين في الرذائل والمفاسد، وكان عموم المصريين يتغاضون عن ما يتم نشره من تشنيعات بحق أولئك الحكام، وستجد الإشارة في أوقات مثل هذه إلى فكرة نصرة الله للدولة العادلة ولو كانت كافرة، وأن معيار الثقة في الحاكم هو كفاءته وليس فساده، ومن هنا ولد المثل الشعبي الذي توارثته الأجيال: "ادي العيش لخبازه حتى لو أكل نُصّه"، لكن ذلك يتغير حين تقل كفاءة الحاكم، ويبدأ في التقتير على الناس وتسوء معيشتهم، فيبدأ عامة الشعب على الفور في ذكر مساوئه الشخصية والتشنيع على فضائحه، ويربطون ما يجري لهم من ضيق وفقر بانحرافاته الأخلاقية وبعده عن الله ومخالفته للشرع الحنيف.
ستجد أن ذلك التفكير تغير بشكل كبير مع مقاومة الاحتلال، فبالإضافة إلى أي رفض شعبي لتعاون السياسي مهما كانت كفاءته مع المحتل، أصبح المطلوب من السياسي الذي يتصدر للعمل العام أن يكون على أرقى مستوى ممكن في مواجهة الاحتلال الدنس الذي يسكر جنوده في الشوارع ويترددون على بيوت الهوى، وهو ما لا يمكن أن يكون مقبولا من سياسي وطني سيقود المصريين إلى تحرير أرضهم، وفي تقديري أن ذلك الاستخدام لفكرة الطهر كمعيار للتقييم السياسي، تصاعد بعد دخول جماعة الإخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة إلى الساحة السياسية ليصبحا الأعلى صوتاً، حتى وإن لم يكونا الأكثر جماهيرية مقارنة بحزب الوفد، ومن يتابع صحف الثلاثينات والأربعينات سيلاحظ تضاعف استخدام الأخلاق والدين والمثل العليا في المجال السياسي، وكيف تزايد ظهور فكرة جهاد النفس وإصلاح الأخلاق في الخطاب السياسي، ليصبح تحسن الأحوال السياسية مرتبطا بإصلاح النفس والتدين والأخلاق، وهو ما أدى بعد عقود إلى رفع شعار "سيتوقف الغلاء حين تتحجب النساء"، كتطور طبيعي للأفكار التي كان يستخدمها كثير من المعارضين للوفد على اختلافهم السياسي، في الإشارة إلى أن خلاص المصريين من الاحتلال أمر مستحيل، في ظل التفافهم حول قيادة متفرنجة تشبه المحتل في تصرفاتها وسلوكياتها وأخلاقها.
تخبرنا كتب التاريخ كيف أدركت السلطة الحاكمة أهمية استخدام سلاح الطهر السياسي في ضرب منافسيها ومعارضيها مبكرا، في واقعتين منفصلتين حاول الملك فاروق ضرب الوفد تحت الحزام، مرة قبل زواج مصطفى النحاس خلال تواجده مع صديقة إيطالية في عوامة، ومرة حين حاول الملك إذاعة تسجيلات سرية عن علاقات عاطفية بين بعض قيادات الوفد، والملفت أن من فرمله في المرتين ومنعه من تنفيذ ما انتواه، كان حلفاؤه من خصوم الوفد المتمسكين بالتقاليد السياسية التي تفصل الحياة الشخصية عن الحياة العامة، لكن الملك فاروق لم يتوقف عن المحاولة، ووجد من يساعده في مهمة ضرب الوفد تحت الحزام، وكان من أبرز هؤلاء الأخوين مصطفى وعلي أمين، الذين توسعا في الحديث عن الحياة الشخصية لمصطفى النحاس وزوجته زينب الوكيل، وساهموا مع أحمد حسين زعيم حزب مصر الفتاة في إضفاء خطاب وطني على تلك التغطيات الفضائحية، يتبنى فكرة أن مصر لا ينبغي أن تحكم من أناس مثل هؤلاء يسهرون السهرات الصاخبة، ويخالفون تقاليد المصريين، لكن فاروق لم يهنأ كثيرا بتلك الانتصارات الصغيرة، ومن عجائب الأقدار أنه بعد أن أطيح به، تم استخدام السلاح الأخلاقي ضده فوراً، وعلى يد الأخوين أمين دون غيرهما، في سلسلة تحقيقات فضائحية نشرتها صحف (أخبار اليوم)، وتم جمع بعضها بعد ذلك في كتاب (ليالي فاروق).
استخدمت سلطة يوليو هي الأخرى سلاح الطهر السياسي في ضرب أشرس معارضيها من الشيوعيين والإخوان، فحين تقرأ تغطية "صحافة الثورة" لأخبار القبض على التنظيمات الشيوعية، ستجد تكرار الإشارة إلى وجود العلاقات الجنسية المفتوحة بين أعضاء التنظيمات وعدم اعترافهم بالزواج ومؤسسة الأسرة، ولم تتورع صحف "العهد الجديد" في استباحة الحياة الشخصية لمعارضي الثورة من الشيوعيين على صفحاتها، بنشر الكثير من الأكاذيب التي تتعلق بحياتهم الشخصية. أما في حالة الإخوان فقد قامت الثورة باستثمار الفضائح الجنسية التي تورط فيها أحد وكلاء الجماعة في فترة ما قبل الثورة مباشرة، ليعاد فتحها في بعض صحف النظام لضرب صورة التنظيم الذي يصدر نفسه بوصفه تجمعا لجند الله، بالإضافة إلى تكرار الحديث عن الفساد المالي داخل التنظيم، وهو ما ظل يتكرر حتى بعد ضرب تنظيم 1965 واستخدام شهادة القيادي الإخواني المنشق علي عشماوي للتأكيد على فكرة فساد التنظيم أخلاقيا وماليا، مقابل طهر الثورة وتنزه قادتها البررة عن الأطماع والدوافع.
بعد هزيمة يونيو 1967 والإطاحة بعبد الحكيم عامر ورجاله، توسع إعلام عبد الناصر في نشر "انحرافات" عامر ورجاله، ولم يجيئ تكرار استخدام كلمة "انحرافات" عبثاً، فهي في الوقت نفسه إشارة مزدوجة إلى "استقامة" ناصر ورجاله المقربين، ليتم الضرب على وتر أن عبد الناصر لم يكن له في الفساد المالي والأخلاقي، وحين بدأ تصاعد الحديث شعبياً عن فساد أقارب خليفته أنور السادات، حاول نظام السادات ضرب صورة "النقاء الناصري" من خلال التسريبات التي تم تمريرها إلى الصحفي جلال الدين الحمامصي والتي تتحدث عن فقدان ملايين الدولارات من خزينة الدولة التي كانت مفاتيحها في يد عبد الناصر، ثم تكرر ذلك من خلال ما أثاره صهر السادات وصديقه ورجله المقرب عثمان أحمد عثمان في مذكراته في نهايات عهد السادات، ولم تؤت المحاولتان ثمارهما، بل على العكس ارتدا بشكل عكسي على نظام السادات، فاضطر السادات بنفسه للتدخل لتكذيب ما يقال والإشادة بطهر ونقاء "جمال الله يرحمه"، لتتكرر بعد ذلك الإشارة إلى أن عبد الناصر كانت لديه أخطاء سياسية، لكنه لم يكن فاسداً، لأن صورة الفساد ظلت شعبياً مرتبطة بالتصرفات الأخلاقية: الخمر والنساء والمال الحرام، أما فكرة الفساد السياسي التي حاولت ثورة يوليو استخدامها في ضرب رجال العهد البائد من قيادات الأحزاب، حين حاكمتهم في محكمة الغدر وحاولت عزلهم سياسيا، فقد منعها تأميم المجال العام إعلاميا وسياسيا من أن تتطور لتصبح جزءا من التفكير السياسي للمصريين، وتصبح أساساً لمحاسبتهم لقياداتهم، لأنها أخطر على واقعهم من أي انحرافات أخلاقية أو مالية.
السادات المنتمي بتفكيره ووعيه السياسي إلى عالم ما قبل يوليو، ظل هو الآخر منشغلا بفكرة الطهر السياسي، وهو أول وآخر رئيس يحاول تطويرها إلى قوانين من اشهرها قانون العيب، وينظم لها أجهزة قضائية مثل محكمة القيم، لكن أسطورته كـ "حامي لقيم الأسرة المصرية وراعي لدولة العلم والإيمان" لم يكتب لها طول البقاء، مع تصاعد مظاهر الأبهة والفخفخة عليه، وارتفاع حدة التشنيع على زوجته الأنيقة المسيطرة التي أفادته كثيراً لدى حلفائه في الغرب، لكنها أضرته لدى عشاق مجتمع العلم والإيمان الذي حاول تأسيسه، ثم تطور ذلك مع تصاعد حكايات المحسوبية والثراء الفاحش المرتبطة بأقاربه ومحاسيبه مثل عصمت السادات وعثمان أحمد عثمان ورشاد عثمان وغيرهم، وهم الذين سمح نظام خليفته حسني مبارك للصحافة باستهدافهم، سواءً كانت الصحافة الحكومية الراغبة في إظهار نظام مبارك بمظهر النظام الطاهر النقي الذي يؤمن بأن "الكفن مالوش جيوب" أو الصحافة المعارضة ناصرية الهوى الراغبة في الانتقام من السادات، لتكتمل الدراما بمحاكمة بعض محاسيب السادات على يد الأجهزة القضائية التي ابتدعها بنفسه، أما الذين كانوا أثقل من أن يتم مسهم مثل عثمان أحمد عثمان، فقد اكتفى النظام بالسماح للصحافة بشن حملات عليهم من حين لآخر، والتسامح مع بعض المناوشات البرلمانية التي تشن عليهم من نواب المعارضة، ربما ليتم إقناع هؤلاء "القطط السمان" بالاستمرار في لبس الجلابية والتشمس في النوادي، ومواصلة تقديم الدعم للنظام الجديد حين يطلبه.
...
نكمل غدا بإذن الله