عن سلاح اسمه "التراكم"

13 يوليو 2014

مقاتلون فلسطينييون يتدربون في الأردن (مايو/1967/فرانس برس)

+ الخط -


على مدار الأيام الماضية، ومع توسيع صواريخ المقاومة دائرة قصفها وفعاليتها من تخوم قطاع غزة حتى حيفا، ظلّ التساؤل والتعجّب والاحتفاء مهيمناً على أي استرجاعٍ زمنيٍّ، لمسيرة هذه الصواريخ، أيام كانت أسطوانات معدنية تتلوى في الهواء، أيام نعْتِها بالعبثية والمرتدّة على الفلسطينيين وجلّابة الدمار، حتى الوصول السريع إلى اليوم بكل دلالاته.

تختصر مسيرة تلك الصواريخ واحدةً من أوليات العمل النضالي التحرري، والتي كادت تغيب عن المجال السياسي الفلسطيني، أو تُغيّب، تشير تلك الصواريخ، بكل وضوح، إلى فراغ كبير، يتسع في الوعي النضالي الفلسطيني، تدلل على "التراكم" ضرورةً أولية، لإحراز أي تقدم، يليه انتصار في مسيرة التحرر والنضال بكل أشكالها.

إن أي حركة تحررية، أو مطلبية بالحد الأدنى، لا تروّض عناصرها وأتباعها على فهم قيمة التراكم، والسعي إلى إنجازه؛ إنما هي حركة قررت سلفاً وضع نفسها وأتباعها في دوامة متغيراتٍ، لا تتحكم هي فيها، وبالضرورة ستبدل وتغير في نهجها، بما يمس جوهر وجودها ودورها، لأن البداهة تقول إن المجال السياسي ميدان أخذٍ وردّ وشدّ وجذب، ولا توزع فيه الأعطيات مجاناً.

ويمكن اختصار تاريخٍ طويلٍ من نضالات شعوبٍ وأممٍ وحركاتٍ في مسار محدد من التراكم، تراكم في التأكيد على الحق، ورفض التخلي عنه، وتراكم في حشد مدافعين عن الحق، وواعين بأساليب تحصيله، وتراكم في دفع الأثمان، وتسخيرها للوصول إلى ذاك الحق، وتراكم في تطوير الوسائل وصيانتها لانتزاع ذاك الحق.

إن نظرة على المجال السياسي الفلسطيني، في السنوات الأخيرة، في ظل سيطرة نهج السلطة عليه، وفاعلية الرئيس محمود عباس فيه، تظهر حالة استهلاكيةً عجيبةً للخيارات والاستراتيجية، هي تأطير عملي لغياب التراكم، كضرورة لتحقيق مكاسب نضالية، فالسلطة لا تريد فعل شيءٍ، يكلفها أي ثمن، أو يغدو نهجاً جامعاً. ولذلك، تتنقل بين خياراتٍ، وتتغنّى في تسويقها شعبياً، ثم تغيّرها خلال سنة أو أقل، بحثاً عن خياراتٍ أخرى، في أحيان كثيرة يسمونها استراتيجية! ويصح بجرأة كاملة القول إن السلطة في عهد محمود عباس لم تأخذ أياً من استراتيجياتها إلى غاياتها القصوى، ولم تمض بها إلى نهاية السجال، بل ظل سلوكها يفتقر إلى أي وعيٍ بالتراكم، باستثناء التنسيق الأمني.

تعاملت السلطة مع الفلسطينيين كجمهور متفرج، أطلقت مشروع الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وقبله مشروع بناء مؤسسات الدولة، ومعه المقاومة السلمية، ثم التوجه إلى المعاهدات الدولية، وسط أجواء كرنفالية واحتفالية، كأن ما يتم المضي إليه هو سبيل النصر الأكيد. كل هذا لم يؤخذ خياراً نضالياً، لا محيد عنه، على الرغم من ترويجه، وكأنه خلاصة الحنكة السياسية.

تلاشى مشروع بناء مؤسسات الدولة، العضوية في الأمم المتحدة لم تفعل شيئاً حتى الآن، وتبين حجمها الفعلي، والمقاومة السلمية اتضح أنها لا تشمل التظاهر ضد القتل الإسرائيلي، ولذلك تقمعها أجهزة أمن السلطة، والتوقيع على المعاهدات الدولية أصبح مادة للمساومة لا تجرؤ السلطة على استخدامها، لكي لا تخسر كل شيء وتعاقبها إسرائيل. وعند أي حديث عن المحاكم الدولية، يتذكر الفلسطينيون جيداً تقرير غولدستون.

المقاومة، في جزء كبير من سلوكها، وعلى عكس نهج السلطة، لم تلتفت إلى اتهامها بالعبث، وعاشت مع جمهورها القصف والتضحية ودفع الأثمان الباهظة، مع كل هجوم إسرائيلي، يزعم الرد على مطلقي الصورايخ، وظل الوعي بأهمية التراكم فعالاً في تحويل الجمهور إلى حاضنة، مع إدراك لقدرة الوعي بالتراكم على نفي اليأس في فترات العجز والهزائم الجزئية، وإدراك لقيمته في تثبيت النهج، وعدم تركه مادة للاستثمار عند من يتسنمون القيادة. إن التراكم مدخل أولي لفهم كيف كان عناصر تنظيمات، كحماس والجهاد الإسلامي في الضفة وغزة، يتناوبون على قطعتي سلاح، قبل عشرين عاماً، وها هم، اليوم، يتناوبون على قصف إسرائيل، وبعتادٍ لا تملك إسرائيل معلومات دقيقة عن حجمه وقدرته.

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين