عن ثقافة كرة القدم

26 يناير 2015
+ الخط -

أتوقع أن يثير العنوان الذي اخترته لهذا المقال حفيظة بعضهم، ويستفز آخرين، فيتهمونني بالمبالغة أو بضيق الأفق أو بحماسة الشباب أو بوقوعي في فخ المهللين لقطعة جلد منفوخ لا تقدم ولا تؤخر، وسيستغرب الأقل تسرعاً نحو الأحكام المسبقة من استحضار اسم "لعبة" في سياق الحديث عن مفهوم مهم ومفخخ فكرياً، وعلى درجة عالية من الحساسية، كمفهوم الثقافة. ولكنني على ثقة من أن كثيرين سيفكرون معي في الأمر، وسيوافقونني على ضرورة الانتباه إلى الموضوع، وإعطائه الأهمية التي يستحقها.

لذلك، أجدني مضطرا للاستنجاد منذ البداية بالشاعر الأميركي، توماس ستيرنز إليوت، المتوفى سنة 1965، والذي قال  وهو في كامل وعيه: "إن كرة القدم هي العنصر الأساسي في الثقافة المعاصرة". هل بالغ الرجل في إعطائه هذه المكانة للُعبة؟ أم كان يقصد بكرة القدم؛ تلك اللعبة الأميركية الخشنة التي لا أعرف ما الذي يستهوي فيها اللاعبين، لكي يغامروا بأجسادهم وأرواحهم، وينخرطوا في عنف لا ينتهي، حتى صافرة النهاية في سبيل لذة زائلة؟

حسنا، يبدو أنه عليّ أن أستنجد بشخصية أدبية أخرى، لا تقل عن الأولى أناقة وبريقا، وهو الأديب المعروف عنه ممارسة كرة القدم، حارس مرمى فريق جامعة الجزائر سنة 1930، أقصد الروائي الفرنسي/الجزائري، ألبير كامو، الذي قال يوما: "تعلمت أن كرة القدم لا تأتي مطلقا نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها، ساعدني ذلك كثيراً في الحياة، خصوصا في المدن الكبيرة، حيث لا يكون الناس مستقيمين عادة".
بالله عليكم، أية أهمية تمتلكها هذه اللعبة، لكي تساعد كاتبا بحجم كامو في اختيار "أساليب العيش" المناسبة في حياته، من خلال تعاملاته وتوقعاته وقراراته؟ وأي سحر أسود ألقته على شاعرنا الكبير، محمود درويش، كي يكتب عنها، ويصفها بأنها أشرف الحروب؟ أليست كذلك؟ وهي اللعبة التي يحتدّ فيها التنافس، وتتكاثف فيها الأحاسيس، فإما انتصار يخلف زهواً وتضخما وفخرا، أو انهزام يخلف مرارة وإحباطا وانكسارا. وكأني بالملعب الأخضر يختزل حياة الإنسان على الأرض، ونضاله في سبيل الوصول إلى تحقيق الأهداف، وهو في ذلك بين مدافع ومناور ومهاجم. بل أعتقد أن النظر إلى الحياة على اعتبار أنها ملعب كرة ربما سيسهل على كثيرين فهم أدوارهم، وترتيب أولوياتهم وتحديد منافسيهم، ووضع أهدافهم وإعداد الخطة المناسبة لتحقيق الانتصار.
هذا التشابه المثير هو نفسه ما جعل الفيلسوف الإيطالي الكبير، أمبيرتو إيكو، يخصّ كرة القدم بدراسة سيميائية، نشرها في سلسلة مقالات اقترنت بكأس العالم في إيطاليا لعام 1990، فتكلم إيكو عن المستطيل الأخضر وعن دلالاته السيميائية، وحاول الاقتراب من الدلالات والمعاني الكثيرة، التي ترمز إليها هذه الرياضة، بكل مكوناتها وعناصرها.
هل يمكننا، الآن، الحديث عن ثقافة كرة القدم؟
بالطبع، يمكننا ذلك، وهنا علينا النظر إلى الظاهرة كممارسة من جهة، وكتلقي ومشاهدة من جهة أخرى؛ فممارسة هذه الرياضة صارت ترتبط بصناعة ضخمة تدر ملايير الدولارات تقف من ورائها مؤسسات ضخمة تستثمر أموالاً كثيرة، وترتبط باستمرارها شركات ووكالات إشهار ومؤسسات إعلامية متخصصة شهيرة، وهي تسوق في سبيل ذلك الكثير من مظاهر العولمة عن طريق توحيد الأحاسيس وإعادة تشكيل مفاهيم الهوية والانتماء والوطنية لدى الجماهير الغفيرة التي جعلتها اللعبة تتجاوز النظرة التقليدية للمفاهيم السابقة، إذْ لم يعد من الغريب أن تجد مراهقا في قرية نائية من قرى الجزائر العميقة، مثلاً، يتعصب لفريق برشلونة الإسباني الذي لا يربطه به شيء، ومع ذلك، هو مستعد للدخول في عراك مميت، إذا أحس بالإساءة، أو بالإهانة، حين الخسارة، وقد ينسيه الانتصار هموم يومه وشقاء عيشه.
أجل، يمكننا الحديث عن ثقافة كرة القدم، لأن العالم بأكمله صار يتكلم هذه اللغة ويفهمها، ولأنها غيّرت عادات كثيرة، وارتبطت بها سلوكيات كثيرة، وتعلقت بها آمال كثيرة للشعوب الغنية والفقيرة، واستمدت شرعيتها كثقافة من انتشارها الذي لا يُنكر، وإغرائها الذي لا يُقاوم.
لذلك، وجب علينا النظر إلى هذه الثقافة نظرة جدية، خالية من الأحكام التجزيئية المسبقة، ودراستها وتفكيكها ومناقشتها بهدوء وروية، للوصول إلى فهم ولع شبابنا بها، وتعلق قلوبهم بنتائجها، وتأثرهم الكبير بصُنّاعها، ولماذا قد يموت بعضهم بسكتة قلبية، جراء هدف مباغت، ولماذا قد يُصاب شعب بأكمله بإحباط وكآبة، بسبب خسارة مباراة في كرة القدم؟

avata
avata
باديس لونيس (الجزائر)
باديس لونيس (الجزائر)