عن تحوّل سياسة مصر في ليبيا
تثير استضافة مصر اجتماعا مشتركا لممثلين عن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة التساؤل بشأن انتقال في السياسة المصرية تجاه الأزمة الليبية، فقد جاء انعقاد الاجتماع في سياق متزامن مع اجتماعين في سويسرا والمغرب، ما يشير إلى اقتراب مصر من دور الوسيط، على خلاف مواقفها في السنوات الماضية لصالح مكونات سلطة الوضع القائم في شرق ليبيا، وهو ما ظهر في نضج البيان الختامي لاجتماع القاهرة في 13 سبتمبر/ أيلول الجاري مقارنة بالآخرين.
في السنوات السابقة، قامت السياسة المصرية على الاندماج في تحالف دولي، يدعم تمكين مجلس النواب من السلطة في ليبيا، واعتمدت بشكل خاص على الشرعية الانتخابية للمجلس. وعلى الرغم من هيمنة المكونات العسكرية على المشهد السياسي في شرق ليبيا، بدت مصر وكأنها تدعم الحل العسكري للأزمة السياسية، ولم تبدأ في مراجعة مواقفها سوى في لحظات قليلة، أهمها تواصل مبادرة 2017 مع كل الأطراف الليبية، والتحفّظ المحدود على شن الهجوم على طرابلس. على مدى هذه الفترة، لم تتمكّن مصر من حسم خياراتها، فبجانب اهتمامها بالحل السلمي، لم تتخذ خطواتٍ ملموسة لوقف الحرب.
قامت السياسة المصرية على الاندماج في تحالف دولي، يدعم تمكين مجلس النواب من السلطة في ليبيا، واعتمدت على الشرعية الانتخابية للمجلس، هل بدأت تتحول عن هذا الموقف؟
ومع تقدّم حكومة الوفاق في طرابلس، بدأت القاهرة، في مايو/ أيار الماضي، في إعادة تقييم سياستها الخارجية، وقد انشغلت بإمكانية وصول حكومة الوفاق إلى شرق ليبيا، محمولة بنفوذ تركي، ما اعتبرته نقطةً حرجةً لمصالحها الأمنية. على الرغم من تصريحاتها المتتالية بشأن التدخل العسكري، بدت بعض الإعلانات، في الأيام التالية، تجمع ما بين الحل السياسي والدفاع عن مصالح مصر. وفي النسخة الأخيرة من التصور المصري، حاول "إعلان القاهرة"، 6 يونيو/ حزيران الماضي، وضع ملامح التصرّفات تجاه ما اعتبره تهديداً لمصر، جاء في مقدمتها، تجاوز قوات "الوفاق" خط سرت ـ الجفرة، واعتبار مجلس النواب المؤسسة الشرعية، والقبول بدور للمجلس الأعلى للدولة، كما في البندين 7 و 8، في إعادة تشكيل المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، ما يشكل الخطوة الأولى للوقوف على مسافةٍ واحدةٍ من الأطراف الليبية.
وكان ثمة اهتمام بوقف إطلاق النار ونزع سلاح "المليشيات"، غير أن التلويح بالتدخل العسكري صرف الأنظار نحو تزايد احتمالات الحرب حلاً أساسياً، وخصوصاً مع اجتماع العشائر الليبية في سيدي براني (مصر)، في 20 يونيو/ حزيران الماضي. وكانت لغة الحرب سائدة في الموقف السياسي. ولأجل استكمال هذا المشوار، حاولت مصر الاستناد للشرعية الاجتماعية، عبر اجتماع ممثلين للقبائل الليبية، في 19 يوليو/ تموز، تحت شعار "مصر ليبيا" لمناقشة السياسات المشتركة. وفي سياق متزامن، أصدر مجلس الدفاع الوطني ، في 19 يوليو الماضي، بيانا أشار فيه إلى أهمية الحل السياسي، واستقرار الوضع الميداني، بما يحفظ "سيادة الدولة الليبية ووحدتها الإقليمية، وإعادة مؤسساتها الوطنية، ومكافحة الإرهاب ودرء فوضى الجماعات المتطرّفة والمليشيات المسلحة"، واعتبر أن التدخل الأجنبي "غير المشروع" يساهم في تدهور الوضع الأمني، ويهدّد دول الجوار والسلم والأمن الدوليين. ويمكن القول إن بيان مجلس الدفاع هو بمثابة تحديد ملامح موقف سياسي يقوم على أولوية الحل السلمي نوعا من التقييم المستمر للتعامل مع الأزمات الخارجية.
ظلت السياسة المصرية، بعد إعلان القاهرة، محلّ جدل بين الأطراف الليبية، بسبب الخلاف على وقف إطلاق النار، وانسحاب المسلحين الأجانب
بشكل عام، ظلت السياسة المصرية، بعد إعلان القاهرة، محلّ جدل بين الأطراف الليبية، بسبب الخلاف على وقف إطلاق النار، وانسحاب المسلحين الأجانب. ويرجع هذا الجدل إلى ارتباط مصر بكل من الإمارت والعربية السعودية المنحازتين للحل العسكري، والتنافس على استقطاب دول المغرب العربي، بعيداً عن مصر.
وفي ما يتعلق بموقف مصر من اللواء المتقاعد خليفة حفتر، يمكن ملاحظة أنه منذ وصوله إلى القاهرة في يونيو/ حزيران الماضي تراجعت حظوته لدى السياسة المصرية، فعلى الرغم من نص إعلان القاهرة، البند 6، على منحه حق المشاركة، ضمن صيغة الإجماع، في صنع القرار العسكري مع التشكيل الجديد لحكومة الوفاق، بدت تطورات السياسة المصرية أكثر اقتراباً من مجلس النواب، بجانب السعي إلى فتح قنوات اتصال مع النخبة السياسية في طرابلس، بحيث يمكن القول إن هذا التوجه يقلل من أهمية الحل العسكري لدى السياسة المصرية.
على أية حال، ولاعتبارات موضوعية، لم تستطع حكومة الوفاق تحويل المساعدة التركية إلى استثمارات سياسية، ووقفت في منتصف الطريق من دون مبادرة أو أفق سياسي أو تطوير سيطرتها العسكرية. قد يرجع ذلك إلى عيوب بنيوية مثيرة للصراع والتفكك، لكنها، على أية حال، تركت الفرصة للمجلس الأعلى للدولة ليكون شريكاً لمجلس النواب في تدشين جولة أخرى من الحوار السياسي. تتقاطع هذه الجزئية مع السياسة المصرية، من جهة اضطلاع المكونات التشريعية بأعباء الترتيب للمرحلة المقبلة في اجتماعات جنيف وبوزنيقة (المغرب)، بحيث ساعدت مصر على الانفتاح أطراف سياسية من الغرب الليبي.
تبدو السياسة المصرية في حالة انتقال نحو المشاركة الفاعلة في الترتيب لمرحلة جديدة تستصحب إعلان القاهرة، حيث تلقت دعماً من الإمارات والسعودية، إضافة إلى فرنسا وروسيا
وبشكل عام، تبدو السياسة المصرية في حالة اتنقالٍ نحو المشاركة الفاعلة في الترتيب لمرحلة جديدة تستصحب إعلان القاهرة، حيث تلقت دعماً من الإمارات والسعودية، إضافة إلى فرنسا وروسيا. لذلك، يمكن القول إن ظهور المبادرة المصرية أصبح ساحة مشتركة لكل الأطراف. يتضح ذلك في البيان الختامي لليبيين في القاهرة، 13 سبتمبر/ أيلول الجاري، حيث توصل الوفد الليبي، عبر اجتماعات استمرت من 10 – 13 سبتمبر، لمعايير الانتقال إلى المرحلة الجديدة، وهي تقوم على التواصل المصري مع كل الأطراف ومن دون استثناء، لأجل ضمان وقف إطلاق النار، والترتيب لوضع خريطة الانتخابات، بما يتضمن توفير الأساس الدستوري وتهيئة البيئة السياسية عبر المصالحة الوطنية، وأيضاً طلب مساعدة مصر في عودة النازحين.
وبالنظر إلى محتوى هذه التطورات، يمكن ملاحظة تقاربها مع المقترحات المصرية المتعلقة بالسلام والحوار، كما ساهمت في خفض فرصة الحرب. وهذا ما جعل السياسة المصرية تنتقل إلى مرحلة أخرى، حاولت من خلالها توسيع نطاق الاتصالات مع بعثة الأمم المتحدة، بالإضافة إلى ظهور مؤشرات إلى التهدئة مع تركيا، فمنذ نهاية أغسطس/ آب، تحاول مصر توسيع اتصالها السياسي مع دول شمال أفريقيا ومالطا، بحيث وضعت نقاط اتصال مع الدول متقاطعة المصالح مع ليبيا، حيث تواصلت مع وزير الشؤون الخارجية لمالطا، ثم تواصلت مع وزير خارجية المغرب، في يومي 6 و7 سبتمبر/ أيلول الجاري، لأجل دعم الحوار السياسي بين الليبيين، مجلس النواب ومجلس الدولة.
الوضع في ليبيا لم يعد يحتمل تنافر العلاقات الإقليمية
تبدو هذه التطورات استجابة للتداخل ما بين مشكلات شرق المتوسط والوضع في ليبيا. ومنذ نهاية العام الماضي، حاولت مصر ربط المسارين، وخصوصاً مع توقيع مذكرتي التفاهم بين تركيا وليبيا، ووصلت، في نهاية المطاف، إلى توقيع اتفاقية بحرية مع اليونان، لم تكتمل مراحل التصديق عليها، ما فتح الطريق أمام التهدئة مع تركيا في ما يخص الملف الليبي، والبحث عن مسارات تعاون أخرى غير تلك المحفزة للحرب.
في هذه البيئة المثيرة للجدل، تواجه السياسة الخارجية تحدّيات تنبع من التدخل الدولي المتعدد. قد تعني هذه العوامل أن التدخل العسكري لن يمثل الحل النهائي. لذلك قد تلتزم السياسة المصرية مع الولايات المتحدة، لكن من الضروري بناء مسار آخر يقوم على ما سوف تكون البدائل عليه أمام مصر، متمثلة في تقوية الروابط الإقليمية بجوار مؤتمر برلين والمسارات الدولية الأخرى، لإيجاد نقطة توازن مع التدخلات الدولية. وهنا، تبدو أهمية تكوين نسق للعلاقات الجيدة مع دول الجنوب؛ في شمال أفريقيا وشرق المتوسط، لتكون ركيزة لمرحلة توازن إقليمي.
فتح قنوات اتصال مع النخبة السياسية في طرابلس، في توجه يقلل من أهمية الحل العسكري لدى السياسة المصرية
وبالنظر إلى ميراث السياسة الأوروبية تجاه جنوب المتوسط، يرتبط الوصول إلى حالة التوازن ببناء مصر شبكة علاقاتها الأساسية خارج النطاق الأوروبي؛ مع شمال أفريقيا وتركيا ومنطقة الشام، ليس بمنطق المواجهة مع أوروبا، ولكن الاقتراح الأساسي يستند إلى فرضية أن سياسات الأوروبيين تعمل على تدعيم علاقات التبادل اللامتكافئ والاستقطاب الثنائي، فإذا ما أخذنا السياسة الفرنسية، على سبيل المثال، فهي تعمل على ربط دول شمال أفريقيا، كل منها على حدة، بتصوراتها للصراع والحرب في ليبيا، من دون ضمانات بالمصالح المشتركة.
في التحليل الأخير، يمكن القول إن الوضع في ليبيا لم يعد يحتمل تنافر العلاقات الإقليمية لعاملين: الأول أن ليبيا مشت في مشوار فشل الدولة إلى مدى بعيد، لا يسمح للصراع أو التدخل العسكري بتحقيق قيمة مضافة لأيّ من الدول. وبهذا المعنى، يضفي تجاهل بناء السلم والخروج من المرحلة الانتقالية أعباء من دون عائد على الدول المتدخلة، بحيث تصل، في بعض الحالات، إلى نفقات صافية. أما الثاني، فيقتضي تصاعد موجة التطبيع والتسليم غير المشروط بالعلاقة مع إسرائيل اتخاذ سياسة مكافئة تجاه حل الصراع في ليبيا، كمعالجة أمنية، بغرض تهدئة المخاطر على الحدود الغربية بجانب تقييم العقبات الإقليمية.