عن تحفظّات الإسلاميين على المظلة العروبية

02 أكتوبر 2018

(حسين ماضي)

+ الخط -
يستكمل هذا المقال الأفكار الرئيسية التي تَحول دون أن ينخرط الإسلاميون العرب في مشروع شراكة عربي موحد، لا يتورّط بمسارات سياسية اليوم، وإنما ينسجم كلياً في إطار المشروع العربي للنهضة الذي لا يُغيّر حقيقة أن النجاة من معضلة الاضطهاد السياسي والإنساني البشع، والخروج من مأزق الصراع العرقي والمذهبي والفكري المتعدّد، لا تختلف فيه المؤسِسَات الكُبرى لحلم النهضة العربية، إسلامياً كان أو قومياً.
يتّضح ذلك حين يتم تحرير الأفكار، وتحديد مواطن الخلاف، ونقلها من محطة الجدل المتحدّي إلى التكامل المعرفي. ولكن كيف يتسق قولي هذا مع إقراري السابق بوجود خلافاتٍ واسعة بين الأطياف العلمانية والإسلامية؟ أُجيب بأن الخلاف على رؤية الحياة المدنية، وأفكار الإنسان العربي المعاصر، لا تمنع الاتفاق على قالب دولة النهضة، حتى لو اختلفت الأطراف على مواد دستورها، ما دامت تضمن الحقوق السياسية والدستورية والإنسانية العامة للمواطنة الحديثة. وكل إنسان عاش هذه المعاني، أكان ضمن مساحة محدودة في تجارب الشرق، أم في مهجره الغربي، تراه ملتحماً مع هذه الحقوق من زاويته الشخصية، فكيف إذا نُظّمت بنيتها الفكرية، عبر حوار ثقافي عميق، يُنقذ الإنسان العربي من الصراعات الصفرية.
تشكلت التجربة الغربية الحديثة، والتي دائماً نؤكد على عدم تزكيتها بالمطلق، خصوصا في موقفها المناهض لإنسان الجنوب، في ثوبٍ ليبرالي واضح، وظلت الحركة اليسارية في الغرب في حالة جدل وصراع معها، بل إن المؤسسة الحديثة للدولة، وخصوصا في الولايات المتحدة، بطشت بذلك التيار اليساري منذ الحرب الباردة إلى حركة احتلال وول ستريت.

ما المعنى هنا؟ القبول بالدولة الانتقالية المستقرّة لا يجوز أن يفرض على شركاء الأيديولوجيات المتنازعة الكفّ عن قناعاتهم، أو وقف جدلها، بل هي تحتاج حالة شراكةٍ واشتباكٍ معاً، لتطور الوعي الفكري والتنزيل السياسي لتجربتها. وهذه معضلةٌ لدى الطرفين اليوم، حين يعتبران أن الدولة المدنية الحديثة يجب أن تمنع جدل الصراع مع مواد الدستور ذاتها، ما دامت في مسلك سياسي سلمي. ولو تفهّم الجميع هذا المسار، لعرف كيف يُنظم خلافه مع شريكه الفكري، فيؤسّسان الحوار على البناء، لا هدم الاستقرار النسبي. وهذا يعالج من يقف مع تفسيرات مرجعية الإسلام الدستورية أو ضدها، وأن مساحة الحياد كبيرة جداً، من دون استهداف قطعياته بنصٍّ مستفز، أو محاصِر للحقوق الشخصية للمؤمنين بها، وهو ما يجهله كثيرون عن هذه المساحة الكبرى.
من أهم عناصر الممانعة والتوقف، عند الإقرار بالمظلة العروبية، شعور العربي المسلم بأن ذلك يقطعه عن الوحدة الأممية الرسالية التي نصّ عليها القرآن الكريم وخطابات النبي الأمين. ومثالٌ يقرّب الأمر: ماذا لو انقسم فريقان من الإسلاميين العرب في تجربة ماليزيا، أيهما في ظن الباحث أقرب لقبول الماليزيين: ركّز الأول على عودة التحالف الديمقراطي الذي ضم أنور إبراهيم والسياسي المخضرم محاضر محمد (هذا اسمه حسب أصل الكلمة العربية لمسمّاه)، وقال إن لدى هؤلاء نزعة إسلامية، ولدينا اليوم معركة دينية، فلنتقدّم لدعمهم ضد غير المسلمين من شعب ماليزيا من الديانات المختلفة. .. ونتبنّى، نحن الإسلاميين العرب، في "تويتر" وغيره، الجهاد الإعلامي معهم، وإن كان سلطان ماليزيا يريد هبّةً إسلاميةً داعمةً لاسترداد هونغ كونغ، أو منازلة الصين، فنحن بهتافنا هنا (الملكية الدستورية في ماليزيا لا تتدخّل في الحكم الفيدرالي، ولا المحلي، والجيش يخضع لقرار السلطان وفق تكييف دستوري للدفاع القومي). وإن المطلوب من التحالف محاصرة الحقوق الديمقراطية، وتعزيز الأحكام الشرعية، حسب هذا التيار، وتغيير ماليزيا إلى مفهومهم في الشريعة، وخنق المواطنين من أصول هندية من السيخ أو الأقلية الكبرى من الصينيين.
في المقابل، قال الفريق الآخر إننا نُحيّي وندعم هذا الكفاح الديمقراطي الذي خاضته هذه الزمرة الكبير، وإن عزيزة، حتى أعادت شخصيات مشروع النهضة الماليزي إلى التحالف، وساهمت في إسقاط الاستبداد الفاسد، وإعادة وهج الحرية، ومستقبل الديمقراطية. وإننا ندعم الحداثة الإسلامية التي حافظت على هوية الشعب، واحترمت تعدّدية مواطنيها المختلفة، ونقف معها ضد التحريض الغربي على نهضتها المستقلة. ونجاح ماليزيا نجاح لنا في الوطن العربي، نسعى إلى دعمهم تنمويا واقتصاديا، ولكن لا نتدخل بخصوصياتها، أو نتدخل في شأنهم الوطني.
أي الرأيين سيكون مرحباً به لدى كوالالمبور، في الحياة السياسية والمجتمع المسلم، بل في الحزب الإسلامي الماليزي ذاته ذي البعد الإخواني؟ هل يعتقد أحد أن نقل العاطفة العربية وقضايا التكفير والتصنيف هو في سياق الوحدة الأممية الرسالية بين المسلمين؟ وهل هذا من مصلحة مسلمي الهند الذين يتعرّضون لسلسلة بغي واضطهاد، وصلت إلى خطة التخلص من تاج محل والقيم الإنسانية التي رسّخها المسلمون قرونا خلت؟

بعد جريمة هدم مسجد بابري في مدينة أيوديا في الهند عام 1992، ومنذ عمليات التعقيم لمسلمي آسام تحديداً، والتي أضحت لعنةً إنسانيةً، شهد لها الوجدان، أياً كان دينه، هل كان الخطاب العاطفي حلاً، أم أن التذكير بالكفاح الحقوقي والعدالة الاجتماعية وقيم غاندي، حتى لو اختلف معه المسلمون، ودعم شراكتهم الدستورية وحقوقهم، ضد التطرف الهندوسي هو الأفضل؟
هذه الموازنات هي أقصر الطرق إلى معنى أن يعي الإسلامي العربي أن مهمّته في إصلاح وطنه العربي قاعدة أصلية، تساعده في أن ينجح، ويُشكل شراكة مع المسلمين غير العرب، حين ينجح هو أيضاً في توحيد نسيجه المختلف في الوطن العربي، والفسيفساء المتعدّدة من القوميات والأقليات. ومن هنا تُنظم الشراكة، أما خلط العواطف بالمصالح وأدلجة الإسلام عبر مشروع قُطري، ثم تصديره بوصفه عقيدة مشتركة، ليس وحدة أممية، ولا نهضة فكرية، بل حصاد الهشيم، والذي لم ينقذ العرب، ولم تكسب منه أمم الشرق إلا العنت، ومزيدأ من ظلم المستبدّ والغرب.
18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
مهنا الحبيل
مهنا الحبيل