عن تحدّيات القصة وكُتّابها راهناً

19 مايو 2015
+ الخط -
تواجه القصة قي زماننا الراهن تحديات كثيرة يمكن تأطيرها ضمن صنفين: تحديات ناجمة عن عوامل تحت وطأة "الواقع القائم" والمتغيرات الاجتماعية - الاقتصادية، ولا سيما المرتبطة بالعلاقة بين المبدع والمتلقي، التي تُحيل بطبيعة الحال إلى موضوع الاتصالات والإعلام في العصر الحديث. وتحديات ذاتية ناجمة بشكلٍ رئيسٍ عن أداء الكاتب. ولا ريب في أنها تحديات متداخلة ببعضها بعضاً.
إن أول تحدٍ نصادفه هو ما يمكن تسميته تحدّي النشر، وذلك نظراً إلى ما شكّله تاريخياً من عامل مهمٍ في ظهور هذا الجنس الأدبي حتّى وفق اعترافات عدد من كتاب القصّة القصيرة العرب وخصوصاً في مصر، التي تكاد تجمع على أن القصّة القصيرة في مراحل ظهورها الأولى كانت ابنة الصحافة الأدبية، حيث إنها ازدهرت - على حدّ قول بهاء طاهر- بسبب رعاية الصحافة لها، ما جعل هذا الفنّ ينمو بين القراء نظراً إلى وجود قاعدة ضخمة من القرّاء تحظى بها الصحف الشعبية، وهذا الأمر سبق أن أكّده يحيى حقي أيضاً.
بكلمات أخرى فإن طريقة نشر القصّة القصيرة المستوعبة للموضوع في الصحف، التي بدورها فضّلت نشرها على نشر قصّة مطولة أو روايات على حلقات، كانت سبيلها إلى الانتشار بين المتلقين، في وقت كانت فيه روح المرحلة أو العصر مرتبطة بالصحف أكثر من ارتباطها بالكتاب المطبوع.
وإذا ما انتقلنا بقفزة سريعة إلى مرحلتنا الراهنة، فإن روح العصر فيها تبدو مرتبطة في هذا الصدد، أكثر من أي شيء آخر، بالشبكة العنكبوتية وبشبكات التواصل الاجتماعية. ما يجب أن نلاحظه هو أن هذا الانتقال تأدّى عنه، من ضمن أمور أخرى، سقوط ما يمكن اعتباره "دور الوسيط" الذي يتمثّل في المحرّر، ويعتبر برأيي دوراً مهماً للغاية، علماً أن "مؤسسة التحرير" لا تحظى عموماً بدور كبير في سياق الكتابة الأدبية العربية.
تقدّم مواقع هذه الشبكات فرصاً مغرية حتّى للكتّاب المحترفين الذين يرون ضرورة عدم تجنبها. فمثلاً الكاتب البرتغالي المنوبـل خوسيه ساراماغو خاض هذه التجربة وأنشأ مدوّنة. وفي أحد آخر حواراته قال إنه بدأ بمقاومة الفكرة، لكن إلحاح زوجته "انتهى إلى إقناعي. وأنشأنا مؤسسة برئاستها، وبما أن هذا يبدو أساسياً مع مرور الوقت، فقد افتتحنا موقعاً على الإنترنت. وطوال سنة كتبت فيه بشكلٍ شبه يومي من دون انضباط، ولا أظنّ أني سأعود إلى ذلك. لكن لا أحد يعلم، فمن الحذر الرهان على المستقبل".
بالقدر نفسه فإن هذه الشبكات تقدّم الفرص نفسها لغير المحترفين أو للكتاب الهواة، وإذا ما عدنا إلى ساراماغو فإنه شأن غيره يحذّر من مضار الإنترنت في المجال الفكري والثقافي، مؤكداً أن التقدّم كان دائماً في وجهين: نافع وضار. ولتوضيح هذا الرأي ضرب مثلاً بالقطار: إن كان القطار ينقل سلعاً ضرورية لحياتنا أو يحملنا إلى أماكن إقامتنا فهو نافع، أما إن كان ينقل الآليات الحربية ويحمل الأبرياء للزجّ بهم في السجون وأماكن التعذيب فهو ضار، وذلك هو حال قطار الإنترنت. ويلح ساراماغو على أنه لا يجوز أبداً للعقل التقاعس في هذه الظروف حتّى نتمكن من التمييز بين الضار والنافع في هذه الشبكة الجهنمية.
يستجرّ تحدي النشر- التحدي الثاني-، تحدّي النقد، الذي بدوره يطرح مبلغ التفات النُقاد إلى القصّة القصيرة، آخذين بالاعتبار أن ما يكتب عنها في الآونة الأخيرة يكاد يكون منحصراً في الأبحاث الأكاديمية، التي يقوم فيصل بينها وبين النقد. فضلاً عن ذلك، ينطوي تحدّي النقد على تحدٍ آخر هو تحدي التفات النقاد إلى تحولات العلاقة الجدلية بين عنصر القصّ وبين تكنيك كتابة القصّة بما في ذلك لغة الكتابة ومداليلها، وبينه وبين تكنيك التكثيف - مثلاً في القصّة القصيرة جداً- كما تتبدى في تجارب الأجيال المتعددة. وكلّ ذلك في موازاة الالتفات إلى انعكاس الذات أو الأنا الساردة، وحركة التماشي مع الواقع أو التصادم معه، ومستويات أخرى من الكتابة القصصية، كالتناص والتخييل والغرائبية وما إلى ذلك.
تحدّي التجريب، هو التحدي الثالث. إذ إن أوّل ما يستدعيه الحديث حول هذا التحدّي، هو مواجهة فوضى التجريب. فلئن كان معنى التجريب يحيل إلى هاجس القطع أو القطيعة مع مراحل سابقة أو مع تجارب متراكمة، سواء لناحية التضاد معها أو لناحية تجاوزها، فإن ذلك لا يعني بحال من الأحوال القفز عن وجود معيارية لكتابة الفنّ القصصي على تعدّد أشكاله. في الوقت نفسه، لا يكفي أن ينسب الكاتب نصّه إلى التجريب حتى يصبح مؤهلاً للتمتع بهذه الصفة.
والرابع هو تحدّي الكتابة في التابوهات وما يستلزمه من ضرورة أن تكون هذه الكتابة تخدم النصّ ومقتضيات القصّ وليست مقحمة عليه.
أمّا الخامس، فتحدّي ارتباط القصّة بالرواية، حيث نشهد أن أغلب كتاب القصّة القصيرة يكتبونها كجسر عبور لكتابة الرواية.
والتحدي السادس هو تحدّي التحزّب؛ برأيي لا يمكن التحزّب لشكلٍ دون سواه، فما كان يستقيم في السابق لم يعد كذلك الآن. ويبقى السؤال: هل ثمة شكل سيفرض نفسه في نهاية المطاف؟
أخيراً، لا يظلّ للنقّاد سوى شكوى صادقة: إن الواقع الراهن في مجال الكتابة هو واقع جديد مفارق كثيراً لما كان عليه من قبل، نتيجة أشياء عديدة في مقدّمها ما طرأ من مستجدّات على دنيا الاتصال الحديث. وإزاء هذا الواقع، قد يكون من الجدير استعادة القول المأثور إن كثافة الشجر تحجب الغابة، كي نشكو من أن كثرة النصوص ربما تحجب الأدب، وتغدو عملية العثور على الأدب من طرف الناقد أقرب إلى عملية التعثر به من قبيل المصادفة. هل أقول هذا الكلام لإدانة نصوص بعينها، أم لإدانة الناقد، أم لإدانة كليهما معاً؟ لا أعرف.
المساهمون