بعد أيام قليلة، يعقد الاتحاد العام التونسي للشغل مؤتمره وينتخب قيادة جديدة، لن يكون الأمين العام الحالي، حسين العباسي، بين أعضائها. هكذا، يغادر الرجل الذي طبع الحياة السياسية التونسية ما بعد الثورة، بعدما كان واحداً من أبرز الفاعلين والمؤثرين فيها، توّجها بحصوله العام الماضي على جائزة نوبل للسلام، مع بعض المنظمات الأخرى. لكن الجميع يعرف أن "الاتحاد" كان وراء إطلاق الحوار الوطني وأن العباسي كان مهندسه الأوّل.
وبقطع النظر عن كل الاختلاف الذي رافق قيادة العباسي لاتحاد الشغل طيلة هذه الأعوام، وما تخللها من أحداث وخلافات وتقلبات كبيرة شهدتها تونس والمنظمة، لكن أحداً لا ينكر فضل الرجل ودوره الحاسم في تسخير كل ثقل منظمته في الوصول بالبلاد إلى تجنب المواجهة أولاً، وتجاوز الخلافات التي حالت دون كتابة الدستور الجديد، والوصول بتونس أخيراً إلى انتخابات حرة وديمقراطية، من دون أن ينفي هذا دور بقية الشخصيات الوطنية الكبرى في إدراك التوافق، والتنازل المتبادل من أجل البلاد، والدفاع عن شرعية المؤسسات والقوانين، مما جنّب تونس سيناريوهات كارثية.
ولم يقتصر دور العباسي على تلك المرحلة السياسية من تاريخ تونس، وإنما كان مستميتاً في الدفاع عن صمّام الأمان في المجتمع التونسي، أي الطبقة الوسطى. وخاض معارك طاحنة في الدفاع عن مكتسباتها، ليمنع تآكلها المستمر وسقوطها في مستنقع الحاجة، متجاهلاً كل الاتهامات التي كيلت له ولمنظمته بتعطيل الدولة وتعدد الإضرابات، على الرغم من أن بعضها كان من دون رغبته ولغايات سياسية وحسابات انتخابية صرفة. لكنه نجح في اقتلاع مكتسبات هامة للأجراء.
وستكون معركة العباسي الأخيرة، حوارا وطنيا جديد حول قضية من أبرز المسائل التي تطرح على التونسيين اليوم، وهي محاربة الإرهاب. فقد أعلن خلال حفل لتكريمه، يوم السبت الماضي، أن "الاتحاد" سيقدم مقترحاً لعقد مؤتمر حوار وطني حول مكافحة الإرهاب بغاية تقريب وجهات النظر بين مكونات المشهد السياسي. ولفت إلى أن تواصل الجدل حول عودة الإرهابيين إلى تونس سيقسم المجتمع. ولم يتفق التونسيون بعد على عقد مؤتمر كهذا، على الرغم من إعلان ذلك مراراً، بسبب الخلافات الكثيرة، وخوفاً من أن يكون هذا المؤتمر مدعاة لمزيد من الخلافات بدل حلّها. بذلك، يخرج العباسي تاركاً وراءه نجاحات هامة في مسيرته، لكنه سيترك أيضاً لخلفه ملفات معقدة ومحطات مهمة في مسار البلاد.