عن المطالبة بإغلاق "الجزيرة"
لكنّ الأوان ليس أوان عتاب بعد أن نعقت غربان الباطل وتحالفت نبال المستبدّين لتنال من جسد قناة إخبارية يريد هؤلاء تحميلها آثاما تنوء عن حملها الجبال، وكأنّ "الجزيرة" التي تحاربها رؤوس الخيانة العربية هي التي أسقطت بغداد وشرّدت أبناء الرافدين، وهي التي حاصرت غزّة وجوّعت أبناء اليمن وذبحت النساء والولدان في رابعة، وهتكت أعراض النساء في الموصل، وقتّلت السوريين في حلب وإدلب، وفجّرت بيوت الليبيين في سرت وبنغازي...
جرائم ارتكبها آلهة البهتان ودعمها كهنة السلطان يريدون إلصاقها بقناة إعلامية فضحت زيفهم وأسقطت أقنعة الظالمين، وكشفت سوءات أقلام الإثم وإعلاميي الكرتون فأوجعهم صوتها، إذ ارتفع ذات يوم عالياً في كلّ جغرافية العرب، حتّى صارت شاشتها أشدّ على الأنظمة الفاسدة من أصوات البنادق. وما نقموا من "الجزيرة"، إلا أنّها وقفت مع الشّعوب حين رفعت لاءاتها فحازت شعبية لم تحز عُشرها قنوات الأنظمة مجتمعة في 22 دولة عربية على مرّ العصور.
يقولون إنّ "الجزيرة" دعت للفتنة، وأوقدت شرر الحروب وتسبّبت بمآسي الشعوب فقط لأنّها بسطت ميكروفوناتها أمام الغلابى والمقهورين، فوجدوا فيها منبرا للتعبير فضبطوا أجهزة الاستقبال على تردّداتها دون غيرها، فما ذنب الجزيرة إن اختارها المشاهد العربي وصدّقها وألغى متابعة غريماتها وكذّبها، فإن كان لـ"الجزيرة" مال فـ"للعربية" ضعفه، وإن كان لها غطاء سياسي فـ"لسكاي نيوز" مثله، وإن ملكت ألمع الصحافيين فلأنّها اختارت خطّاً يوافق طموحاتهم، فالفارق إذن ليس في الإمكانات بل في التمكّن من الميدان، وليس في السّبق بل في الصّدق، ومن اختار الوقوف في صفّ الشعوب فلن يضرّه السّلاطين شيئاً.
ينقمون من "الجزيرة" أن منحت الصهاينة فرصة الحديث من جهة، ثمّ يتّهمونها بدعم المقاومة التي تحارب الصهاينة من جهة أخرى، فأيّ فصام يعانيه هؤلاء؟
يعتبون على وسيلة إعلام أنّها فتحت عدساتها للأعداء ويفتحون لهم سفارات وقنصليات ويعينونهم على اغتيال القيادات في فنادقهم وشوارعهم، وإن نسينا فلن ننسى أنّ المبحوح اغتاله الموساد الصهيوني في الإمارات، وليس في الدوحة التي يقيم فيها قادة حماس معززين وكل الأحرار الذين هربوا من بطش المستبدّين في قطر مكرّمين، في وقت يقيم فيه أعداء الشعوب لدى تلك الأنظمة التي تحارب "الجزيرة"؛ فبن علي قصد الرياض ولم يقصد الدوحة، وأحمد شفيق استجار بآل نهيان فأجاروه ليجاور أحبّته في سفارات الصهاينة، والقلب للحبيب يحنّ، ولا يحنّ قلب شفيق إلّا للذين قضى عمره يعاقرهم كؤوس الخمر في شرم الشيخ من ضيوفه الإسرائيليين، وهكذا هي معادن الناس وشبيه الشيء منجذب إليه.
من شاء أن يعرف أهل الحقّ، فليتّبع سهام أهل الباطل حيث تقع، فهناك يقف الحقّ منتصباً يواجه ضربات أعدائه، ويكفي دليلاً على ذلك أن مطالب إغلاق الجزيرة انطلقت منذ سنوات من الكيان الصهيوني، والضغوط بدأت من واشنطن قبل أن يأتي قوم تُبّع كعادتهم يقتفون أثر السيّد الأبيض، وكذاك ديدن العبد إن رام لسيّده رضا وإثباتَ ولاء.
وإن عاز أصحاب الذاكرة السمكية التاريخ، فسنذكّرهم بأنّ الجزيرة هي التي قدّمت الدماء فداء لكلمة الحق وتأييدا للقضايا العادلة، فها هو دم طارق أيّوب ما زال نديّا بعد 14 سنة من اغتياله برصاص المحتل الأميركي، وأزرار كاميرا علي حسن الجابر لا تزال تبكي أنامل صاحبها الذي قضى برصاصة ديكتاتور ليبيا، والأمثلة لا تنتهي.
بالفعل، للجزيرة مثالب وأخطاء مثل كلّ وسائل الإعلام، ولها أهداف ومشاريع قد تتفق أو تتعارض مع مصالح الأنظمة هنا وهناك ولا يضير الجزيرة أو غيرها أن ينتقدها النّاس، بل إنّ الأصل في الإعلام أن يكون له مؤيّد وخصيم، كل هذا مقبول مستساغ، لكن أن تجتمع الجهود لإسكات صوتها فهذا اعتداء عليها وجرأة على حقّها وحقّ جمهورها، فاتركوا القناة تعمل وأثبتوا لنا أنّ إعلامكم أفضل منها، دعوها ونافسوها واهزموها في الميدان.
أما أن تكون الجزيرة هدفا وعدوّا فهذه سفاهة لا يقترفها إلا حاكم مراهق لا يدرك حتّى طرق القضاء على عدوّه إذا سلّمنا بأنّها عدوّ بالمنطق المقلوب، وإنّ أنظمة تخشى السقوط بجرّة قلم وتتوجّس من الانهيار بسبب تقرير متفلز لا يتجاوز دقيقتين وترعبها آلة تصوير على كتف مراسل وهي تحمل على أكتاف جيوشها شتى أنواع الأسلحة، لا تستحقّ أن تعيش، أنظمة كتلك جدير بها أن تُدهس بالأقدام وتُداس بالأقلام.
وصوت الضعفاء لن ينكتم، دماء طارق أيّوب تسقي حلقه...