إفطار على شرف الرئيس
بعد السّلام، قمت مُهرولاً وأنا نصف يقظ أبتغي نوماً طويلاً، ويا لدهشتي حين شعرت بيد قويّة تجذبني إلى الخلف، وصاحبها يدنو منّي بشكل أشعرني أن الرّجل يوشك على التهام أذني: "أنت معزوم على الإفطار مع الرّئيس اليوم، انتظرني قبل أذان المغرب بنصف ساعة"، إذن هو من جماعة الرئيس، عيونه بلغت مسجدنا هذا، يا للهول نحن تحت الرقابة حتى في الصلاة.
ظللت متحجّراً في مكاني، وآلاف الأسئلة تتزاحم بخلدي، الرئيس يستضيفني أنا على مائدة مستديرة يتحلّق حولها رجالاته، لو اختار صحافياً من وسائل الإعلام التي يموّلها شقيقه لكان ذلك منطقيا لكن أنا.
أخيراً، صار وطني جنّة ديمقراطية، الرئيس نزل إلى الشعب، أم الشعب ارتقى إلى الرئيس؟ لا يهمّ، الآن سأفطر مع رئيس الجمهورية وأنقل للشعب ما رأيت، أنا والرئيس وثالثنا الوطن، لا لا... أنا والرئيس ومائدة الإفطار ورابعنا الوطن.
خطأ أيضاً؛ أنا والرئيس و... لا لا هذا خطأ بروتوكولي الرئيس أوّلاً: "الرئيس وأنا ومائدة الإفطار والوزراء والمستشارون وأخيراً الوطن"؛ فالوطن دائماً يأتي في النّهاية (المأساوية عادة)، وقفزت فجأة وأنا أصرخ: وجدتها وجدتها سأقول: الرئيس والبقية، لا يصحّ أن يأتي الرئيس معطوفاً على شيء ولا شيء معطوف عليه، إن فعلت فسيكون ذلك منعطفاً حرجاً في علاقتي الناشئة مع الرئيس.
عدتُ إلى غرفتي مبتهجاً، أغلقت الباب على نفسي ونمت إلى أن سمعت صوت بوق السيّارة خارجاً، لبست بذلتي التي استعرتها من جاري المتزوج حديثاً، وحذاء كلاسيكياً برّاقاً وخرجت مسرعاً، لم تمر أكثر من ربع ساعة حتّى وجدت باب السيارة قد انفتح فولجت القصر الجمهوري متبختراً مزهوّاً، إنّها أوّل مرّة أدخل قصراً وأيّ قصر، تقدّمت بخطى وئيدة وصوت أم كلثوم يتردد صداه في أذني: "واثق الخطوة أمشي ملكا"، دندنت بصوت خفيض: أمشي ملكا... أمشي ملكا، فلكزني مرافقي بمرفقه والشّرر يتطاير من عينيه، فهمت الرسالة بسرعة، لا ملك ولا رئيس هنا سواه، ويا قصر ما دخلك شر!
دلّني مرافقي على مكاني، فجلسْتُ قبالة كرسي الرّئيس، ومدّت الأسمطة الشهيًة ألواناً وأنواعاً، ملأت الصحون كلّها، عدا صحن الرئيس ظلّ فارغاً، حتماً لرئيسنا طبق خاصّ سيأتون به، قلت في نفسي، غير أنّ ذلك لم يحصل، لا الطعام أتى ولا الرئيس، همست في أذن مرافقي: ألن يُفطر معنا فخامته؟ فأخبرني أن الرئيس منشغل جدّاً وسيأتي بعد حين.
نظرت حواليّ فقابلتني وجوه ووجوه، صحافيون ومثقفون كبار هنا، كلّهم يقرنون تسبيحهم أثناء الصلاة بالدعاء للرئيس، والذين يصلّون منهم طبعاً، أما بعضهم فقد استغربت وجودهم لأنّهم لا يصومون رمضان ولا يعترفون به أصلا، همست في أذن أشهر صحافي مؤيّد للرئيس: يا فلان صحن الرئيس فارغ كما ترى فبماذا يفطر الرئيس؟
تنزّى عنّي كأن لم يسمعني فاعتدلت في جلستي وسمعت ماردا بداخلي يقول: الرئيس يفطر على الشعب، يفطر على قوتنا جميعا يا ساذج... وضعت يدي على فمي كي لا يخرج صوت ماردي منّي.
حين أتى الرئيس وقفنا لاستقباله فأشار لنا بالجلوس، وأخذ مكانه بتواضع جمّ، رفع عينيه وابتسم في وجهي مرحّبا وأردف: أنت من تصفني بأشنع الأوصاف دائما، ها أنا أستضيفك لترى بعينك ما يأكل الرئيس لكنكم....
وقاطعه ذاك الذي سألته قبل حين: فخامة الرئيس الزميل فيصل عثمان سألني بماذا تفطر فخامتكم!
للحظة وددت لو أدقّ عنق ذاك الرجل الذي اشتهر بأن فمه في أذن شقيق الرئيس دائماً والعكس، لكنه لم يمهلني وواصل مُحرِّضَاً: سيّدي الرئيس إنّه يكتب ضدّ مصلحة الأمة ومصلحة فخامتكم، ألم تقرأ آخر مقالاته؟
وانقلب الوضع رأساً على عقب على حين غرّة، تغيّرت نبرة صوت الرئيس وانتفخت أوداجه وتصايح الوزراء والمستشارون: عميل... خائن... عدوّ الوطن، ها أنت ترى بعينك كلّ شيء، اكتب وقل الحقيقة بعد أن رأيتها رأي العين يا جبان، أخبر الشعب بماذا يفطر الرّئيس...هاه قل بماذا؟
- بقوت الشعب يا أبناء... قلتها بصوت عال وضربت رجل المائدة بقوة فتطاير الصحون إلى أعلى ثم سمعت خشخشة...
استيقظت من النوم والوجع يمزّق قدمي، كنت قد ضربت جدار الغرفة أثناء الحلم.