عن القضية "173 - تمويل أجنبي"

22 مارس 2016
+ الخط -
انتقلت السلطوية العسكرية الحاكمة في مصر إلى معركةٍ جديدةٍ من معارك تصفية الثورة المصرية، وذلك من خلال حملتها الجديدة/القديمة على مؤسسات المجتمع المدني، خصوصاً العاملة في مجال الحريات وحقوق الإنسان ودعم المرأة، فقد جرى، قبل أيام، إعادة فتح ملف قضية "منظمات المجتمع المدني" التي كانت قد بدأت في عام 2011 في أثناء حكم المجلس العسكري الأول بعد ثورة يناير. وهي القضية التي تم الحكم فيها على المتهمين في 4 يونيو/حزيران 2013 بأحكام متفاوتة بين سنة مع وقف التنفيذ والسجن خمس سنوات للمتهمين الغائبين، خصوصاً الأميركيين الذين تم إخراجهم من البلاد، بعد أسابيع قليلة من بدء القضية عام 2011 تحت مرأى ومسمع من الجميع، بعدما أشيع عن تهديد السيناتور الأميركي جون ماكين للمشير حسين طنطاوي، رئيس المجلس العسكري آنذاك، بأنه إذا لم يتم السماح بسفر المواطنين الأميركيين المتهمين في القضية سوف "تقوم الولايات المتحدة بإخراجهم بطريقتها". وهو ما حدث، حيث تم تسفير ما يُقال إنهم متهمون في القضية، بقرار أصدره رئيس محكمة استئناف القاهرة الأسبق، المستشار عبد المعز إبراهيم، قبل بدء محاكمتهم رسمياً، وذلك في فضيحة سياسية كبرى لمن كانوا يديرون البلاد في تلك المرحلة.
ما حدث، قبل أيام، هو إعادة فتح "الفرع المصري" للقضية وتسخينه، وذلك بعدما تم تشكيل هيئة قضائية جديدة، للتحقيق في القضية التي باتت تُعرف باسم "قضية التمويل الأجنبي"، والذي تتهم فيها السلطات منظماتٍ من المجتمع المدني العاملة في المجال الحقوقي والدفاع عن الحريات "بتلقي تمويل أجنبي من دون علم الدولة، ما قد يهدّد الأمن القومي للبلاد". ومع تحريك القضية من جديد، تم استدعاء عدد من العاملين ومديري هذه المنظمات، كما حدث مع الشريك الرئيس في "المجموعة المتحدة: محامون ومستشارون قانيون"، نجاد البرعي، الذي جرى استدعاؤه إلى محكمة شمال الجيزة قبل حوالي ثلاثة أسابيع، للتحقيق معه في عدة اتهامات، منها "إدارة جمعية بدون ترخيص"، و"إذاعة أنباء من شأنها تكدير السلم العام". أو ما حدث مع جمال عيد، مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، والذي تم التحفظ على أمواله وأموال أسرته، بقرار من هيئة التحقيق في القضية، وكذلك المؤسس والمدير السابق "للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، حسام بهجت، والذي تم منعه من السفر وعدم التصرف في أمواله. الطريف في الأمر أنه لم يتم إبلاغ عيد وبهجت بقرارات التحفظ على الأموال والمنع من السفر، وإنما علما بها من وسائل الإعلام. وهو ما حدث قبل ذلك مع بعض النشطاء، مثل إسراء عبد الفتاح وحسام الدين علي وأحمد محمد غنيم الذين تم منعهم من السفر أيضاً، أواخر عام 2014، من دون إعلامهم بالقرار.

أبعاد قضية تمويل منظمات المجتمع المدني التي حملت رقم 173، وتم تحريكها عام 2011، باتت تعرف فى الإعلام المصري بقضية "173-تمويل أجنبي"، معقدة ومتشابكة، ويتداخل فيها السياسي مع القانوني مع الأمني بشكل لافت. ففي 3 يوليو/تموز 2011 تم تشكيل لجنة لتقصي الحقائق في القضية، بقرار من مجلس الوزراء آنذاك، بهدف التحقيق فيما أثاره بعضهم بشأن التمويل الأجنبي للمنظمات والجمعيات الأهلية العاملة في مجال حقوق الإنسان، والتي على إثرها تم فتح القضية التي انقسمت إلى قسمين، أحدهما متعلق بالمنظمات الأجنبية العاملة في مصر، ومنها المعهد الديمقراطي والمعهد الجمهوري ومنظمة فريدوم هاوس الأميركية ومنظمة "كونراد أديناور" الألمانية، التي جرى إغلاقها جميعاً بعد الحكم في القضية أواخر عام 2011. أما القسم الثاني فهو المتعلق بالمنظمات المصرية، والتي لم يتم اتخاذ أية إجراءات ضدها حتى أواخر عام 2014، عندما أصدر قاضي التحقيق الجديد في القضية، المستشار هشام عبد المجيد، قراراً بشأنها، وذلك حسبما جاء في جريدة "الشروق الجديد" المصرية.
سياسياً، بدأت السلطة العسكرية، قبل فترة، حملةً ممنهجةً لترهيب العاملين في المجال الحقوقي وتخويفهم، خصوصاً بعد توالي الإدانات الدولية لملف حقوق الإنسان والانتهاكات المفزعة التي تمارسها هذه السلطة وأجهزتها الأمنية المتوحشة، سواء داخل المعتقلات والسجون وأماكن الاحتجاز، أو مع المواطنين العاديين. صحيح أن بعض المنظمات العاملة في هذا الحقل كان قد تم احتواؤها وتوظيفها من السلطة العسكرية، خصوصاً في مرحلة ما بعد انقلاب الثالث من يوليو، لكن المنظمات التي ظلت تمارس العمل الحقوقي، على الرغم من الظروف والقيود الصعبة التي تضعها هذه السلطة فيجري الآن تهديدها، وترويع القائمين عليها.
قانونياً، ما يحدث الآن جزء من معركة قانونية مستمرة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني، منذ أكثر من عقد ونصف، وهي معركة تجسدت بشكل واضح في القانون سيء السمعة، قانون "المنظمات غير الحكومية" رقم 84 لعام 2002، والذي يمنح الدولة سلطةً واسعةً في تقييد عمل الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية في مصر. وتحت طائلة هذا القانون، داهمت السلطات منظمات ومراكز حقوقية عديدة في مصر، مثلما حدث مع المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عامي 2013 و 2014، وكذلك مركز هشام مبارك للقانون، فضلاً عن احتجاز عاملين فيها واعتقالهم، كما طالبت الحكومة جميع المنظمات الأهلية بتوفيق أوضاعها، كي تتماشى مع مواد القانون، وإلا تعرّضت للإغلاق والتجميد. وقد لعب وزير العدل المُقال، أحمد الزند، دوراً مهما في هندسة قضية "التمويل الأجنبي" وإثارتها مرة أخرى، من خلال انتدابه قاضيين جديدين للتحقيق بها، في محاولة لإرضاء السلطة الحالية، والحصول على مزيد من التأثير والنفوذ داخل دوائرها، لكن ذلك لم يشفع له، حيث بادرت السلطة بالتخلص منه، بعد أن أصبح عبئاً عليها.
أمنياً، من المثير أن من يدير الحملة الراهنة ضد المنظمات الحقوقية هي "الدائرة الاستخباراتية-الرقابية" التابعة لرئاسة الجمهورية، والتي تتولى إدارة المشهد السياسي في مصر برمته. ويذكر بعضهم أن قائمة المنظمات التي تم وضعها على لائحة هذه القضية وُضعت بمعرفة جهازي الاستخبارات العامة والأمن الوطني (أمن الدولة سابقاً)، وأنه من المتوقع أن تتم إضافة منظمات أخرى جديدة على القائمة في الأسابيع المقبلة. ما يعني أن ثمة ضوءاً أخضر أعطته الأجهزة السيادية لجهات التحقيق، من أجل توجيه اتهامات مفزعة للعاملين في هذه المنظمات، تتراوح بين تلقي أموال أجنبية إلى التآمر على الأمن القومي للبلاد، وربما الخيانة العظمى.



A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".