عن الفلسطيني الذي لا نحب أن نراه إلا شهيداً!

16 يونيو 2020
+ الخط -
من استطاع منكم الفرجة على الفيلم الفلسطيني الوثائقي (عالم ليس لنا) فليفعل ولا يحرم نفسه من مشاهدة هذا الفيلم المثير للشجن والتأمل والضحك والأسى، وإن ظننت أنني أبالغ في وصفه، وربما كنت كذلك، فدفاعي عن حماسي لهذا الفيلم سيكون الفيلم نفسه، وأنا واثق أنك ستشاركني بعد مشاهدته حماسي له.

كشأن أي عمل فني كبير يصعب كثيراً أن تختزل تعريفك للفيلم في قصة محددة تحكيها في سطور، لكن إذا كان ولا بد فدعني أقل لك إن الفيلم يبدو كأنه يقدم قصة شاب فلسطيني كانت أسرته تعيش في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، ثم هاجرت إلى الدانمارك ليكبر الشاب هناك ويصبح مخرجاً سينمائياً، ويقرر أن يقدم فيلماً تسجيلياً عن علاقته بمخيم عين الحلوة الذي كان طول طفولته يحن إليه، وعن علاقته بجده وأقاربه وأصدقاء طفولته، وقد قلت "يبدو كأنه" لأن الفيلم يقدم من خلال مجموعة من التفاصيل المثيرة للشجن والأسى والضحك، صورة الفلسطيني كما لا يحبه الكثيرون في الوطن العربي.


لقد تعودنا في العالم العربي أن نرى الفلسطيني في الأعمال الفنية والأدبية بوصفه المناضل المقاوم الثائر الشهيد أخو الشهيد أو ابن الشهيد أو قريب الشهداء أو الذي ينتظر الشهادة ويعمل ليل نهار من أجل تحرير كامل التراب الفلسطيني أو يحلم على الأقل بذلك، وأصبحت هذه هي الصورة التي نحبها ونريدها للفلسطيني، لأنها الصورة التي نرى من خلالها فلسطين كمعنى مقدس ومبهم في نفس الوقت لدى أغلبنا، وهي صورة تمرد عليها عديد من الفنانين والأدباء الفلسطينيين الذين حرصوا على أن يقدموا الفلسطيني كإنسان لديه أحلام وهموم ربما لا تكون هي نفسها التي نفكر فيها له أو بالنيابة عنه، وهو ما نجح هذا الفيلم في فعله بامتياز.

في (عالم ليس لنا) يقوم المخرج الدانماركي ـ الفلسطيني مهدي فليفل بتعرية الواقع المرير للاجئين الفلسطينيين في لبنان فاضحا من خلال تفاصيل الحياة اليومية لأبطاله أكاذيب مؤلمة عن (القضية الفلسطينية) التي كان كثير من العرب في أغلب الأحيان أعدى أعدائها بشعاراتهم الكذابة و"عنترياتهم التي ما قتلت ذبابة"، في نفس الوقت الذي يقدم فيه رسالة قوية ضد الاحتلال الإسرائيلي دون طنطنة ولا خطب، دون أن يبدو منشغلاً بتقديم نفسه للجمهور الغربي كجنتلمان متفهم رقيق الحاشية، وهي معادلة شديدة الصعوبة تحسب لمخرج الفيلم الذي حصل على عدة جوائز عديدة مخصصة للأفلام الوثائقية في نيويورك وتطوان وأبو ظبي وبرلين والإسماعيلية وإدنبرة وديربان وسراييفو ونورديسك وميونيخ ومكسيكو وكاراكاو في السنوات من 2012 إلى 2014، وكلها جوائز يستحقها الفيلم عن جدارة.

عنوان الفيلم مأخوذ عن عنوان مجموعة قصصية للأديب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني ليست أشهر أعماله لدى القراء العرب، كما أن حكاياتها ليست مطروحة ضمن أحداث الفيلم، فنحن نراها فقط في مشهد قصير ومرير يقوم فيه واحد من أهم أبطال الفيلم بفرز الكتب التي تبقت لديه من مرحلته النضالية التي دامت طيلة سنين من عمله كمقاتل مع حركة فتح في مخيم عين الحلوة، قبل أن يتبدل حلمه بعد تبدل الواقع الفلسطيني ليصبح متيما بالسفر إلى أوروبا بأي شكل وأي ثمن ويتتبع الفيلم بعض هذه المحاولات وثمنها المرير، وقد التقط المخرج عنوان الكتاب بذكاء شديد ليصبح معبراً عن الشعور العام لأبطال الفيلم على اختلاف أجيالهم دون أن يقولوا ذلك بشكل مباشر للكاميرا التي تتابع تفاصيلهم اليومية الصغيرة في هذا المكان الكئيب القاتل للإنسانية المزهق للأحلام المدعو مخيم عين الحلوة.

للأسف حين تم عرض الفيلم تجارياً عام 2014 في دار عرض آي إف سي المتخصصة في عرض الأفلام المستقلة في نيويورك، لم يلق إقبالاً يتناسب مع الجائزة المهمة التي نالها في مهرجان نيويورك للأفلام الوثائقية، وأذكر أنني عندما ذهبت لمشاهدته للمرة الثانية وجدت القاعة الصغيرة التي تعرضه نصف ممتلئة، لأنه لم ينل مثلا مساندة كالتي نالها الفيلم السعودي الجميل (وجدة) الذي قامت منتجته شركة روتانا بدعمه ليظل لأكثر من شهرين في عدد من دور العرض الأميركية.

كنت أنصح صديقاً لي برؤية الفيلم إن استطاع إليه سبيلاً، فقال لي أنه مكتئب ولا ينقصه المزيد من الإكتئاب برؤية فيلم كهذا ينضح بالمرارة كما يبدو من عنوانه، فقلت له أنني أنصح بهذا الفيلم بشدة للمكتئبين بالذات، لأنك عندما تشاهده على الأقل ستشعر قليلا بالخجل من اكتئابك، وستتصالح مع واقعك ولو خلال الساعات القليلة التي تعقب رؤية الفيلم من باب أن من رأى بلوى غيره هانت عليه بلواه، لكن ذلك سيتغير طبعا حين تتذكر أنك تعيش أيضاً في (عالم ليس لك)، وأن عليك أن تحاول تغيير هذا العالم حتى يكون لك، ولو حتى بأن تروي قصة عالمك في فيلم جميل كالذي قدمه مهدي فليفل.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.