عن الفصل بين الهويتين الأردنية والفلسطينية

04 سبتمبر 2015
+ الخط -
كتبت في مقال الأسبوع الماضي (عن الجدل "الهوياتي" في الأردن) أن التجاذب "الهوياتي" ما بين الأردنية والفلسطينية حاضر، وبقوة، في خلافات جماعة الإخوان المسلمين الأردنية، وإنْ لا يمكن اختزال كل المشهد به، فضلا عن أنه لا يمكن تعميم هذه "التهمة" على كل أبناء الإخوان، فكثيرون منهم يرفضون هذا الحديث أو التناغم معه، من دون أن يقلل ذلك من خطر هذا التجاذب وحجم تأثيره. 
تتابع هذه السطور النقاش في الموضوع، من زاوية أخرى تتعاطى مع بعض جذور أزمة تشكل "الهوية الوطنية" في مرحلة ما بعد اتفاقية "سايكس-بيكو" البريطانية-الفرنسية، عام 1916، لتقاسم منطقة "الهلال الخصيب"، والتي تضم اليوم: العراق، سورية، الأردن، فلسطين المحتلة، ولبنان. فالتداعيات الكارثية لتلك الاتفاقية، وما ترتب عليها لاحقاً، لم تقتصر على تقسيم المنطقة واصطناع حدود متعسفة لها، بل شملت، أيضا، تَوْليداً قيصرياً لـ"هويات وطنية" مشوهة لَمَّا يعالج الزمن تشوهاتها بعد، ولا يبدو أنه سيكون قادراً على علاجها. ويكفي أن نشير، هنا، إلى كيف شتتت تلك الاتفاقية وحدودها المصطنعة، بقلم وفرجار، عائلات وعشائر وقبائل بين عدة دول، لا يفصل بينها إلا خطوط وهمية تسمى "حدودا".
يقتصر الحديث هنا عن التجاذب "الهوياتي" الأردني الفلسطيني في الأردن، مع التأكيد على رفض الكاتب هذه التوصيفات والتقسيمات النتنة، لكنها من أسف واقع قائم، ولها تيارات تُنَظِّرُ له، بل إن جنونه وصل إلى بعض الإسلاميين، منهم أحد رموز التنظير لجمعية الإخوان المسلمين" الأردنية "المرخصة" من النظام، كانشقاق عن الجماعة الأم الشرعية والتاريخية، والتي باتت في حكم "المنحلة" قانوناً. فذلك "الرمز" لا يفتأ يعيب على قادة الجماعة الأم عدم اعترافهم بحدود "سايكس-بيكو"، ولا أحسب، إن أحسنَّا الظن هنا، إلا أنه اختلط عليه مفهوم "الوطنية" المشروعة، مع مفهوم "التجزئة" المنبوذة، بهدف إجهاض المنطقة ككل.

ليس الانطلاق من "الهَمِّ الوطني الأردني أولا" معيبا بذاته، بل إنه واجب، فأردن قوي، كما أي دولة عربية، ديمقراطي، متماسك ومتجانس، هو رصيد قوة لمحيطه وللوضع العربي برمته، وتحديدا لفلسطين. و"الهَمُّ الوطني" لا يعني انعزالاً عن المحيط، كما أنه لا يعني، أبداً، حصر مفرداته في قضايا داخلية، مثل الإصلاح والاقتصاد، على أهميتها، فثمة قضايا أخرى، خارجية، تؤثر في الأمن القومي لأي بلد، وبالتالي، تصبح "همّا وطنيا" بامتياز. وفي الحالة الأردنية، قضايا فلسطين والعراق وسورية اليوم هي "هَمٌّ وطني" لتأثيراتها على الأمن القومي الأردني واستقرار البلد عموماً.
ولمن أراد أن يستوعب، بموضوعية، جذور الولادة القيصرية المشوهة لثنائية أردني-فلسطيني، عليه الرجوع إلى سياقات تلك الولادة وحيثياتها، بعيداً عن التحيز والتعصب الأعمى، والذي لا يفيد أحداً، إلا أعداء هذه الأمة، وأعداء الأردن وفلسطين، وأعني بهم، وبكل وضوح، الصهاينة.
عندما صدر وعد بلفور المشؤوم، في 1917، وثيقة تعهد حكومية بريطانية رسمية للحركة الصهيونية بإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، فإن "فلسطين" كانت تشمل بالإضافة إلى "الضفة الغربية"، بالنسبة للحكومة البريطانية، "الضفة الشرقية"، وهي جزء أصيل من الأردن اليوم، غير أن اضطرابات وقعت عام 1921 في فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني أرغمت حكومة ديفيد لويد جورج، وتحت ضغوط من الشريف حسين، على إصدار "كتاب أبيض" عام 1922، يعرف أيضا بـ"وثيقة تشرشل"، نسبة إلى ونستون تشرشل الذي كان وزيرا للمستعمرات البريطانية حينها، استثنت "الضفة الشرقية" لنهر الأردن من الوعد، الأمر الذي أثار ثائرة الحركة الصهيونية.
وحسب الوثيقة الصادرة في الثالث من يونيو/حزيران 1922، فإن القلق العربي "مستند، جزئيا، إلى مخاوف مبالغ فيها لمعنى الإعلان (وعد بلفور) الذي ينظر بعين العطف لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.. صدرت تصريحات غير مخولة تدّعي أن الهدف هو إيجاد دولة يهودية كاملة في فلسطين". وتمضي الوثيقة لتؤكد، في ردها على اعتراضات الحركة الصهيونية، حينئذ، إن "شروط الإعلان المشار إليها لا تنص على أن فلسطين ككل ينبغي أن تتحول إلى وطن قومي لليهود، ولكن مثل ذلك الوطن ينبغي أن ينشأ في فلسطين". وقد عنى ذلك بالنسبة للحركة الصهيونية، حينها، أن 76% من "أرض الانتداب الفلسطينية الأصلية" سلخ من حصة "دولة إسرائيل" الموعودة، لصالح "إمارة" سميت بـ "شرق الأردن".
وحسب السير أليك كيركبرايد الذي كان ممثلا لبريطانيا في الأردن ورئيس "حكومة مؤاب الوطنية" في الكرك عام 1920 إلى حين قدوم الأمير عبد الله بن الحسين عام 1921، فإن تشكيل "إمارة شرق الأردن" جاء لكي "تكون بمثابة احتياطي الأرض التي ستستخدم في إعادة توطين العرب، متى ما قام الوطن القومي لليهود في فلسطين. ولم تكن هناك نية في تلك الفترة لتحويل المنطقة الواقعة شرق النهر إلى دولة عربية مستقلة". وحسب أدبيات سياسية بريطانية فقد أريد للأردن أن يكون "الإسفنجة" التي تمتص اللاجئين. وفي عام 1925، أضاف البريطانيون 60 ألف كيلو متر مربع من الصحراء إلى مساحة "إمارة شرق الأردن" كـ"ذراع"، لكي تربط الأردن بالعراق، ولتقطع سورية عن الجزيرة العربية. وقد بقيت "إمارة شرق الأردن" جزءا من النظام القانوني والسياسي للانتداب البريطاني في "فلسطين"، حسب القاموس السياسي البريطاني حينئذ، على ضفتي نهر الأردن، الشرقية والغربية، حتى 1946، عندما نال الأردن استقلاله. وخلال تلك الفترة، أي بين 1920-1946، كان السكان على ضفتي نهر الأردن يحملون جواز السفر نفسه، "الانتداب البريطاني في فلسطين"، ويستخدمون العملة نفسها. بل إن الملك عبد الله الأول، مؤسس "إمارة شرق الأردن"، وأميرها الأول، قبل أن تصبح المملكة الأردنية الهاشمية، ويكون ملكها الأول، يؤكد أنه نجح في إخراج الضفة الشرقية من إطار وعد بلفور.
ولكن، وعلى الرغم من قيام الدولة الأردنية الهاشمية، بحدود معروفة ومعترف بها دوليا، وعلى الرغم من توقيع الأردن "معاهدة سلام" مع إسرائيل عام 1994، فإن هذا لم يعن أن الإسرائيليين تخلوا عن أطماع مؤسسي الحركة الصهيونية وآبائها في الأردن. فمثلا، يكتب شمعون بيريس، الرئيس الإسرائيلي السابق، والمصنف على تيار "الحمائم" في إسرائيل، في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" الصادر عام 1993، أي في أثناء مفاوضات مدريد للسلام، وننقل النص هنا عن الدكتور علاء أبو عامر: "المعروف أن البريطانيين استولوا على البلد الذي كان يسمى فلسطين من الأتراك عام 1917. وبعد خمسة أعوام تم تقسيمه إلى جزئين، حيث أقيمت المملكة الأردنية الهاشمية بشرق النهر وأقيمت فلسطين غربه، بموجب تفويض منحته عصبة الأمم المتحدة لبريطانيا العظمى، بعد ذلك، تلت خطط واقتراحات عدة بتقسيم فلسطين، وما صاحب ذلك من تغيرات على أرض الواقع، وانضمام الضفة الغربية إلى الأردن". ويضيف "إن التناقض بين تطلعات إسرائيل للأمن وأمل الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه المغتصبة لا يمكن حله من خلال المعادلة الجغرافية.. إسرائيل بحاجة إلى العمق الاستراتيجي، والفلسطينيون يطالبون بالأرض نفسها التي تمثل هذا العمق. وفي أعين الإسرائيليين، تبدو خريطة بلادهم غير طبيعية، الأمر الذي يرفضون معه إقامة الدولة الفلسطينية لأسباب أمنية، حتى وإن كانت الدولة المفترضة ستكون منزوعة السلاح".
يتماهى ما يقوله "حمامة السلام" الإسرائيلية بيريس مع موقف "الصقوري" إرئيل شارون، والذي "أتحفنا" به رئيس الوزراء الأردني الأسبق، عبد السلام المجالي، وأشرنا له في المقال الماضي، أن شارون حض الولايات المتحدة على احتلال العراق "لتنفيذ مؤامرة الوطن البديل، لكن سعيه باء بالفشل".
الخلاصة، هنا، أن الإسرائيليين أكثر إدراكا منا للارتدادات الكارثية علينا جرّاء الولادة القيصرية للدولة "الوطنية" عربيا، وهم يحاولون أن يوظفوا تلك الارتدادات لصالحهم، لحل معضلاتهم على حسابنا. و"الهويتان" الأردنية والفلسطينية، اللتان هما في المنشأ واحدة، هما نتاج مشوه لتلك الولادة القيصرية المتعسفة، كما كل "هويات" ما كان يعرف بـ"سورية الطبيعية"، وبقية الفضاء العربي. هذا لا يعني أنه لا توجد وطنية أردنية اليوم، أو وطنية فلسطينية، أو مصرية، أو سورية، أو سعودية، أو مغربية... إلخ، كلا، فهي هويات تطورت وتشكلت مع الزمن، لكن منبعها ومنطلقها لا ينبغي أن يكون "سايكس-بيكو"، من حيث إن جوهر الاتفاقية خلق مفهوم مشوه للوطنية الحقة، لتدمير الهوية العربية الأشمل والأوسع. الأردن وفلسطين جسد واحد، إن لم يكن قناعة، فليس أقلها مصلحة لحماية الهويتين والأرضيْن من متآمر لا يريد الخير لكليهما، في حين يضع صغار بيننا الفتنة في الجسد الواحد.