19 أكتوبر 2024
عن الطائفية ومستقبل سورية
الناظر للمشهد السوري سيرى راياتٍ سوداء وبيضاء وصفراء، وعبارات "لا إله إلا الله" وسوى ذلك كثيراً. وسيرى، أيضاً، جماعات بشرية كثيرة تتوافد على دول الجوار، خوفاً من نظامٍ دمويٍّ، وخلافةٍ قاطعة للرقاب، وطائرات تكمل دمار ما لم يُدمّر، وقتلَ من لم يمت بعد. هذه الرايات وهذا الموت والدمار، يُنسب إلى طائفيةٍ، وجهادية، وأحلافٍ إقليميةٍ ودولية، تقرأ المشهد السوري باعتباره طائفياً بامتياز، وتتدخل وفقاً لرؤيتها هذه. وبالتالي، سيستنتج الناظر هذا، أنّ المشكلةَ طائفيةَ، وأنّ الحلَّ طائفيٌّ.
قبل بداية الثورة، لم تتجاوز سورية آثارَ حرب الثمانينات التي أخذت طابعاً طائفياً؛ فالإخوان المسلمون أرادوا بناء دولتهم الإسلامية، وشكل النظام فرقة عسكرية طائفيةً. وكانت آثار تلك الحرب عُلوَّ الجدران بين الطوائف، وقد عمل النظام، من دون كلل أو ملل، على تعميق الوعي الديني المطيّف، حيث أتاح المجال واسعاً لحركة التدين ولدى الطوائف كافة، وظهرت، منذ حينها، حركة تشيّعٍ، وتوسعت الطائفية، في مجال الوعي والعلاقات الاجتماعية، بل وحتى في مناصب سياسية كثيرة. وفي عقد التسعينيات، برز حزب التحرير قويّاً، وكذلك ظهرت جماعات جهادية، تم إرسالها إلى العراق بدءاً بعام 2003 وإلى لبنان لاحقاً، ولم تتعد مواجهاتها مع النظام دائرة التمثيليات، وتمّ القضاء السريع عليها، ليتكلم الإعلام حينها أن النظام يواجه تطرفاً دينياً، وهو علماني.
في مقابل هذا التسامح (!)، قضى على التنظيمات السياسية العلمانية، ومنع كل حركة فكرية تُجذّر الوعي الحداثي، وهذا ما تمّ في إنهاء ظاهرة اللقاءات الجامعية التي بدأت في قسم الفلسفة في جامعة دمشق وبعض الجامعات السورية، وفي الوقت نفسه، تمّ التشديد على أساتذة هذا القسم، فأغلقت هذه اللقاءات كليّة. وأكمل النظام سيرورته الأمنية ضد القوى العلمانية، حينما واجه بيان المثقفين في عام 2000 بضغط عليهم لإسكات صوتهم، وحينما أغلق المنتديات الثقافية والسياسية، حينما تشكلت عام 2001، وفعل الشيء نفسه بالنسبة للتجمعات السياسية لاحقاً، ولا سيما إعلان دمشق.
مع تفجر الثورة، وقراءة الشعب السوري لما بعد الثمانينات، وما حدث من تطييف واسع، ذهبت قراءته نحو رفضِ كل شكلٍ للطائفية، فقد رأى الوعيُ الشعبي أن الطائفية هي من تنقذ النظام، وهم يريدون تحقيق إصلاحات واسعة أولاً. ولاحقاً، أصبح الهدف إسقاط النظام. وفي هذا المجال، تركزت الشعارات على إقالة المحافظين ومحاكمة من أطلق النار، ولا سيما في مدينة درعا، وتحديداً تمت المطالبة بمحاكمة عاطف نجيب.
مع بدء الثورة، ظهرت في سورية، ونتيجة عدم مراجعة الإخوان المسلمين والنظام ما حدث في
الثورة لا يحركها الوعي فقط، فهناك الوضع الاقتصادي المنهار لأغلبية السوريين، حيث كان للسياسات الليبرالية، منذ عام 2000 خصوصاً، دور في تدهور الزراعة، وتوقف صناعات أولية كثيرة، وإيقاف النمو بشكل واسع، وتزايد العشوائيات في المدن السورية، وإيقاف التوظيف بشكل شبه كامل في الدولة، وضعف الأجور في القطاع الخاص. وكان يعاني من هذه العوامل أكثر من نصف سكان سورية؛ وبالتالي، كانت سورية، كما تونس ومصر واليمن، تعاني أوضاعاً اقتصادية كارثية. ولعبت هذه الأوضاع دوراً مركزياً في مواجهة النظام، كنظام إفقاري واستبدادي، أي يغطي الإفقار بالاحتكار والاستبداد والفساد والتحكم الأمني والتطييف. إذاً، كان هناك عامل اقتصادي اجتماعي ضاغط تفجر إثر تفجر الثورات العربية.
نريد القول، إن وجود أزمة في الثمانينات، ووجود وعي مكرس طائفياً، ليس هو الأساس في التطييف اللاحق فحسب، بل الأزمة الاقتصادية العنيفة، ومواجهة النظام الثورة بالخيار الأمني وبممارسات طائفية، هو ما دفع الثورة نحو خياراتٍ طائفية، وبمرور الأشهر الأولى للثورة، بدأت ملامح الطائفية والسلفية تطغى على المشهد السوري.
يمكن تعقب ذلك، عبر ممارسات قامت بها أجهزة الأمن والجماعات المرتبطة بها، ولا سيما في حمص واللاذقية وبانياس، وكانت تهدف إلى دفع التظاهرات المؤيدة لمدينة درعا وللثورة لتصبح طائفية، حيث أوقعت ميلشيا منظمة من الطائفة العلوية الأذى على أفرادٍ كثيرين من المتظاهرين لدفعهم ليصبحوا طائفيين، ولاحقاً مورست كثير من هذه الأفعال، وكان الهدف إنهاء تمدد الثورة الواسع، وحصرها في طائفة السنة.
رفض السوريون هذا التوجه، وهذا ما دفع النظام إلى إطلاق سلفيين وجهاديين من معتقلاته،
تطورت الأوضاع العسكرية كثيراً، لتنتهي إلى مشهدٍ كارثي، فداعش يتحكم بأكثر من نصف سورية، وجبهة النصرة و"أحرار الشام" يُحكمان قبضتيهما على إدلب وحلب، ويتحكم "جيش الإسلام" في الغوطة الشرقية. وهناك وجود لهذه القوى في درعا والغوطة الغربية، وكذلك في ريف حمص وحماه، وبالتالي، أصبحت القوة الأساسية المواجهة للنظام قوى جهادية وسلفية، بينما تراجع حضور جيش النظام لصالح حزب الله وجماعات طائفية خارجية، ومليشيات أقرب للطائفية، وتابعة للنظام ونفوذ إيراني واسع. في هذه الوضعية، أصبحت الطائفية مسيطرة، وتقدّم المجموعات الطائفية نفسها وكأنّها من أطلق الثورة، وهي من سيُحاصص على أيّ تسوية ممكنة، أو على إسقاط النظام.
تعاملت الولايات المتحدة الأميركية مع الثورة من زاوية أنها ثورة الطائفة السنية ضد الأقليات، وكان هذا حديث ممثلي الإدارة الأميركية للوفود السورية المعارضة، بالسؤال عن مصير الأقليات في سورية؟ الأمر نفسه رأته السياسة الروسية، وقد وقفت مع النظام من دون أي تراجع، وقد تسرب، أخيراً، رفض وزير الخارجية، سيرغي لافروف، وصول الطائفة السنية للحكم. المنطق الطائفي هذا إذاً لا علاقة له بالثورة، فهي شعبية وضد نظام إفقاري مستبدٍ، بل هو مرتبط بقوى داخلية وخارجية، ومن أجل الإجهاز على الثورة وإنقاذاً للنظام.
مستقبل سورية الآن في خطر حقيقي، فالطائفية مُكرسة، والتعريف بالذات وفقاً لها أصبح طاغياً. نفرّق هنا بين الطائفية والطوائف، فالأولى مسألة سياسية ومرتبطة بالقوى السياسية، بينما الثانية مسألة عقيدية، ومرتبطة بالإيمان والعادات. المهم هنا أن الطائفية السياسية أصبحت هي المتحكمة، وما يطرح لمستقبل سورية سياسياً ينطلق من هذه الزاوية بالتحديد.
إذاً، أحدثت التطورات الميدانية تراجعاً في مفاهيم الثورة، وفي طموح السوريين لحياة أفضل، وأصبح المتاح حالياً تحقيق تفاوض يُراعي الطائفية، ويُبقي النظام ممثلاً عن فئات طائفية، بينما تقدم الفئات الأخرى نفسها، أيضاً، ممثلة للطائفة السنيّة. أما الشعب فغيّب عن المشهد، وهو رافض ذلك كله، ويتركز همه انطلاقاً من حاجته في الخلاص من الدمار والقتل والتهجير والحرب والاحتلالات والجماعات الجهادية، وبالتأكيد من الخيار الأمني والعسكري والممارسات الطائفية من النظام. إذاً، وعلى الرغم من تعاظم الجهادية والممارسات التمييزية للنظام، فإن ميلاً آخر ما زال مغيباً، وهو يتأهب لإنهاء الحرب، وللبدء بالعملية السياسية.
في الأفق الحالي، وفي غياب حل سياسي جاد، "ستتأفغن" الجهادية، وستتجذر أكثر فأكثر، ولا سيما بعد دخول الاحتلال الروسي سورية، وكذلك النظام سيعمق من مفهومه لسورية المفيدة، وبالتالي، إطالة عمر الحرب هو تأهيل مستمر للتحكم الطائفي في سورية مستقبلاً.