عن الصراع على التاريخ وعودة الأنبياء

10 نوفمبر 2019
+ الخط -
(1)

"كل ليلة وكل يوم"، وفي كل بلاد العالم ستجد الصراع على التاريخ وسردياته وطريقة تأويلها موجوداً ودائراً وبدرجات تتفاوت في حدتها، لكن في "بلادنا المحمية بالحرامية" على رأي عمنا أحمد فؤاد نجم، لا يعتبر الخلاف حول سرديات التاريخ أمراً مشروعاً ومكفولاً مثل بقية بلاد الله، بل يمكن أن يفضي بك الاختلاف مع السردية الرسمية للتاريخ إلى تلقي اتهامات بالخيانة والعمالة، إن لم يؤد بك إلى السجن أو المنفى، حتى لو كنت متخصصاً في التاريخ، وحتى لو حلفت على جميع الكتب المقدسة أنك تختلف مع الرواية الرسمية السائدة بخصوص الأحداث التاريخية الكبرى، لأنك راغب في الفهم والتحليل، ولست مدفوعاً من جهات أجنبية مغرضة. 

ما يجعل وطأة أنظمتنا العربية ثقيلة في ما يخص روايتها الرسمية للتاريخ، أن شرعيتها وسيطرتها على الحكم ليست مبنية في الأساس على عقد اجتماعي يشترط تحقيقها لمصالح المواطنين وضمانها لاحتياجاتهم وتأمينها لمستقبلهم، بل هي مبنية على شعارات/ضلالات تختبئ خلفها مصالح حقيقية وهائلة، وجزء كبير من بقاء هذه الشعارات الضلالية عالية خفاقة، يستلزم وجود روايات رسمية لا تتوقف في كافة أجهزة الإعلام عن المؤامرة الدولية على تراب الوطن وأطماع القوى الخارجية في سلامة أراضيه، وعلى الجميع بمزاجه أو غصباً عنه، أن ينسجم مع الرواية الرسمية السائدة عن الماضي القريب الذي كان سبباً في مصائب وهزائم الحاضر، لأن تكذيبه وفضحه لتناقضاتها ستنسحب آثاره على الواقع وما يرتبط به من مصالح وسبابيب، ولذلك تلجأ جماهير الأنظمة الاستبدادية إلى استهلاك الرواية الرسمية للتاريخ وإعادة تدويرها، إما بفعل الخوف من القمع أو الخوف من المجهول أو على أمل أن ينولها من مصالح الأنظمة جانب، ولذلك أيضاً لا تجد تلك الجماهير مشكلة في تقبل إعادة صياغة الأنظمة لروايتها التاريخية الرسمية طبقاً للحاجة وحسب مقتضيات اللحظة. 

هناك مفهوم مهم كتبه المفكر والفيلسوف إرنست بلوش عن علاقة الأنظمة الفاشية بالتاريخ، في كتاب (ميراث هذا العصر) الذي أصدره وهو هارب في منفاه من بطش النازية، هو مفهوم اللا معاصرة أو عدم التطابق الزمني، حيث لا يعيش جميع المواطنين في ظل الحكم الاستبدادي في العصر الحاضر نفسه، فهم يعيشون فيه ظاهرياً فقط، لكنهم يحملون معهم ماضياً يتداخل فيهم، ويواصلون العيش في عصور موغلة في القدم تختلف من شخص لآخر حسب موقعه الاجتماعي وموقفه من ما يجري في البلاد. 

لا يتحدث بلوش هنا عن فكرة الحنين إلى الزمن الجميل أو النوستالجيا بشكلها الاستهلاكي اللطيف الصالح لتزجية أوقات الفراغ، بل يتحدث عن الحنين إلى الماضي والارتباط به بشكل ينتج عنه يقين يحرك الإنسان في كل أفعاله، فنجد من يستبد به الحنين إلى الخلافة الراشدة بشكل يجعله يظن أن الخلاص في اتباع تيارات ترفع شعارات إسلامية، ومن يحركه الحنين إلى العصور التي شهدت فيها البلاد سيطرة الحاكم الفرد المخلص، وهو ما يدفعه لتأييد الحاكم الفرد الحالي لعله يخلصه من وجع الدماغ المسمى بالحرية والديمقراطية، ومن يستخدم الحنين إلى العصور الذهبية المتخيلة قديمها وحديثها، ليفرغ فيه غضبه من الانهيار الحالي الذي تعيشه البلاد، وقرفه من تدهور أوضاعه المعيشية. 

حين تشتد قبضة الاستبداد ويتسارع إيقاع الانهيار الذي أحدثه في المجتمع، يتصاعد ذلك الحنين إلى الأزمنة المختلفة ويتقاطع في عقول الناس وقلوبهم بشكل مَرَضيّ، فتجد مواطناً ما يحن في نفس الوقت إلى الحاكم الفرد المخلص جمال عبد الناصر الذي "لبِّس الإخوان طرح وغوايش"، وإلى أيام محمد علي وأسرته المجيدة التي كانت تقرض انجلترا الأموال، وإلى أيام الخلافة الراشدة التي يحن لها الإخوان أيضاً، ودائماً سيصادفك التشنج والغضب، حين تحاول مناقشة تلك الأزمنة ونقد أبطالها بشكل يحاول فرز السلبيات من الإيجابيات، لتجد ذلك المواطن وهو يلعن سنسفيلك بمنتهى الغضب، كأن الزعيم الفلاني أو العصر العلاني قد أصبحا من بقية عائلته، وهو ما يدفع الكثيرين من الراغبين في النقد والفهم، إلى إراحة أنفسهم من خوض عناء مناقشات كهذه قد تدفعهم لخسارة من تبقى من أهلهم وأصدقائهم، وبذلك يتواصل نجاح النظام الاستبدادي في الحفاظ على روايته الرسمية سائدة، ويستمر تربح رموزه من ورائها، ولا يجد غالبية المنهوبين عزاءً سوى مواصلة الحنين إلى أزمنة وصور ذهنية غامضة لا تغني من جوع، لكنها تغني وتسمن حراسها والمتاجرين بها.       

(2)

ما الذي يحدث لو عاد نبيٌ إلى الحياة ورأى ما يفعله أتباعه بالديانة التي دعا إليها؟ سؤال افتراضي وكاشف طرحه عباس محمود العقاد في كتابه (عبقرية المسيح)، مستشهداً برواية الكاتب الروسي العظيم فيودور ديستويفسكي (الإخوة كارامازوف)، والتي تخيل أحد أبطالها أن السيد المسيح عاد إلى الأرض ونزل بإشبيلية في عز سطوة محاكم التفتيش التي سادت الأندلس، فوعظ الناس وصنع المعجزات، وأقبل عليه الضعفاء والمرضى والمحزونون يسألونه العون ويبسطون له شكاويهم، ليرى ذلك الحبر الجليل رئيس ديوان التفتيش، فيأمر باعتقال المسيح فورا وإيداعه السجن. 

في المساء يذهب الحبر الطاعن في السن إلى المسيح ليقول له: "إنني أعرفك ولا أجهلك ولهذا حبستك، لماذا جئت إلى هنا؟ لماذا تعوقنا وتلقى العثرات والعقبات في سبيلنا.. إنك كلّفت الناس ما ليس لهم به طاقة، كلّفتهم حرية الضمير، كلّفتهم أن يعرفوا الخير والشر لأنفسهم، كلّفتهم أوعر المسالك فلم يطيقوا ما كلّفتهم، والآن وقد عرفنا نحن داءهم وأعفيناهم من ذلك التكليف، فليس أثقل على الإنسان من حمل الحرية، وليس أسعد منه حين يخف عنه حملها، فينقاد طائعاً لمن يسلبه الحرية ويوهمه في الوقت نفسه أنه قد أطلقها له، وفوض إليه الأمر في اعتقاده وعمله، فلماذا تُكلِّف الإنسان من جديد أن يفتح عينيه وأن يتطلع إلى المعرفة وأن يختار لنفسه ما يشاء وهو لا يعلم ما يشاء، إنك منحتنا السلطان قديما وليس لك أن تسترده، وليس في عزمنا أن ننزل عنه، فدع هذا الإنسان لنا وارجع من حيث أتيت، وإلا أسلمناك لهذا الإنسان غدا وسلطناه عليك وحاسبناك بآياتك وأخذناك بمعجزاتك، ولترين غدا هذا الشعب الذي لثم قدميك اليوم مقبلا علينا مبتهلا لنا أن نخلصه منك، وأن ندينك كما ندين الضحايا من المعذبين والمحرفين"، ثم يتخيل ديستويفسكي في نهاية هذه المواجهة أن المسيح لم ينبس بكلمة ولم يقابل هذا الوعيد حتى بالعبوس، بل تقدم إلى رئيس ديوان التفتيش وقبّله ثم خرج إلى ظلام المدينة وغاب عن الأنظار. 

كثيراً ما كان خطباء المساجد يقولون لنا في خطبهم الغاضبة عما كان يمكن أن يحدث لو كان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام حيا بيننا هذه الأيام، وما الذي كان سيقوله لو رأى أحوالنا التي لم تعد تسر عدوا ولا حبيبا، وجريا على ذلك كما يقول أهل التراث، أتصور أن سيدنا النبي لو كان حيا بيننا الآن، كان سيضطر حتما إلى الهجرة، لكي لا يتعرض للمحاكمة العسكرية إذا طالب بمحاكمة القيادات العسكرية والأمنية لمسؤوليتها عن سفك دماء الأبرياء، أو لكي لا يجد نفسه مسجونا بتهمة السعي لإسقاط الدولة إذا اعترض على ما يراه من ظلم وفساد يحيط به من كل حدب وصوب، أو لكي لا يتم استهدافه بالرصاص الحي لو خرج في مظاهرة اعتراضا على أن ضباط الشرطة يتشطرون على المواطنين العُزّل، ويفشلون في القبض على الإرهابيين. 

ما سيحزنك أكثر، أن سيدنا النبي لو كان بيننا وفكر في اختيار دولة يهاجر إليها، مثلما هاجر إلى يثرب أو هاجر أصحابه قديماً إلى الحبشة، لما وجد دولة مسلمة يأمن على نفسه فيها من البطش والقمع. ولعله لن يجد في نهاية المطاف سوى الاختيار بين كندا والدانمارك والسويد والنرويج وغيرها من الدول العلمانية التي ستتيح له كمهاجر حرية التعبير عن معتقده والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، بالضبط كما تبيح حرية التعبير لمعارضيه وحتى كارهيه، لكنها في الوقت نفسه ستطبق القانون بصرامة على كل من يفكر أن يتعرض له بأذى مادي، تماماً كما ستطبقه على كل من يفكر في استخدام دعوة النبي لأذى الناس وإرهابهم والتضييق على حرياتهم.

بالتأكيد لم يكن سيدنا النبي سيرى في مهجره ذلك جنة موعودة، خصوصاً بعد أن تتلاشى دهشة البدايات، بل كان سيناضل مع الراغبين في الإصلاح في تلك الدول لمحاربة الظلم والفساد والعنصرية والاحتكار، وبالتأكيد كان سيجد من يدافع عن حقه في التعبير، ومن يطالب بضمان حقوقه الإنسانية كاملة طبقاً للقانون، ومن سيتظاهر من أجل الإفراج عنه لو تمت محاكمته، وكان سينجو من مواجهة المحاكمات العسكرية والإخفاء القسري. لكن ومن يدري ربما تولت الحكم يوماً ما حكومة يمينية متطرفة كان أول قراراتها ترحيله، ليعود ثانية إلى بلاد المسلمين التي تعتبر الحديث عن الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية خطراً على الدولة والمجتمع. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.