عن الشباب والسياسة في المغرب
ربما نملك، اليوم، المسافة الضرورية للتفكير في الحراك الشبابي المغربي لعام 2011، بما يكفي من التمثل الموضوعي الذي يلتقط العناصر الجوهرية في التحولات التي تسارعت بدينامية غير مسبوقة، فالمؤكد أن هناك حاجة، بالنسبة إلى الفاعلين المدنيين المعنيين بسؤال الديمقراطية، إلى الفهم وتجريب المسالك الممكنة لتحليل الوقائع المرتبطة بذلك الحراك، بعيداً عن هواجس التموقعات الظرفية والمواقف السريعة، وبعيداً كذلك عن الترسيمات والخطاطات التي تستدعيها شبكات القراءة والتحليل التي تعودنا عليها منذ مدة غير وجيزة.
وكما دائماً، فإن التحاليل السهلة التي تقدم الأوضاع المعقدة، في صورة تنميطات وتقابلات جاهزة، كانت في الموعد، حيث سمعنا وقرأنا عن عودة مقولة "صراع الأجيال" على صهوة التكنولوجيات الجديدة هذه المرة، وعن تناقضات الشباب/الأحزاب، وتقابلات الحركات الاجتماعية/الحقل السياسي والحزبي.
فيما بنت معالجات إعلامية كثيرة أطروحتها حول فكرة "الأقلية السياسية" التي تلجأ إلى الشارع، للتعبير عن مطالبها. لكن، الواضح أن هذه الأطروحة تستعيد خطاطة المجتمعات الديمقراطية العريقة، حيث لمفهوم الأغلبية والأقلية سياقه التمثيلي والسياسي الواضح.
تطرح قضية التفكير في هذه الدينامية، بدءاً من مسألة الداخل والخارج، في العلاقة مع موجة الحراك الديمقراطي الإقليمي. تابعنا كيف أن النقاش الذي شكل رد الفعل الأولي حول الأحداث، والذي تموقع الرأي العام المغربي حوله، انطلاقاً من قضية "الاستثناء المغربي"، لم يصمد أمام تسارع الدينامية الداخلية التي تقر بالتراكم الوطني في مجال العمل المدني السياسي من أجل الديمقراطية، لكنها تمتح، في الوقت نفسه، من الأفكار السياسية التي توجد في عمق خلفية الثورات التي شهدتها المنطقة، والمنطلقة من كونية القيم الديمقراطية، في مواجهة خطاب الخصوصية الذي شكل، في حالات عديدة، ذريعة إيديولوجية بدائية في يد الاستبداد.
لذلك، فالحقيقة تأكيداً توجد في المنطقة ما بين التحليل الذي يعتبر المغرب مجرد امتداد لما يقع والتحليل الذي يعتبر المغرب معزولاً عن كل ما يقع في الخارج.
وبالقدر الذي كان الشباب حاضراً وفاعلاً في دينامية هذا الحدث وداخل تداعياته، أعدنا، من جديد، اكتشاف هذا "الشباب"، هذه "القارة" البشرية و"الظاهرة" السياسية والاجتماعية، الغامضة، والتي نحمل حولها كليشيهات وأفكاراً جاهزة كثيرة، لعل أكثرها حضوراً الخطاب السهل والملتبس حول "العزوف".
إن دينامية الاحتجاج الشبابي، بالقدر الذي يمكن قراءتها كاستمرار لتقاليد الاحتجاج التي طبعت فضاءاتنا العمومية، منذ نهاية التسعينات، على الأقل في شكلها اليومي، والتي تزامنت مع انفجار الطلب الاجتماعي لمجتمع يعيش تحوّله الديمغرافي الكبير، وداخل سياق سياسي محفز على الحرية، فأصبح معه الأمر كحالة عامة مهيكلة للمجتمع الذي أصبح يعتبر "الاحتجاج" سلوكاً يومياً وثقافة طبيعية، ما يدعو إلى التساؤل حول دلالات هذا التحول، وأبعاده، في علاقة بمنطق البناء الديمقراطي، وبارتباط بردود فعل الدولة من زاوية المعالجة الحقوقية من جهة، ومن باب الأجوبة الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى، ويسمح كذلك بطرح إشكالية أكبر تتعلق باشتغال (أو الأصح بعطب) آليات الوساطة بكل صيغها: الثمثيلية السياسية والحزبية والنقابية والمدنية!.
وإذا كان قد بدا لمحللين كثيرين، اشتغلوا حول الظاهرة الاحتجاجية، أن الاحتجاج السياسي تم تعويضه بدون رجعة بدورة جديدة من الاحتجاجات حول السياسات العمومية، فإن دينامية 20 فبراير أعادت الصيغ السياسية للاحتجاج إلى الواجهة، مدعماً بمحيط إقليمي مساعد، وبتزايد تأثير وسائل الاتصال الجديد في بناء الهويات الاجتماعية/الاحتجاجية.
لقد ظل الاحتجاج جزءاً من المشهد العام، منذ ما يزيد عن العقد، وأصبحت استراتيجية اللجوء إلى الشارع والفضاء العام جزءاً من دينامية الحركات الاجتماعية وبعض الفاعلين الحقوقيين، لكن مؤشر التحول الذي عشناه خلال هذه الدينامية، قبل ثلاث سنوات، تمثل في الانتقال من حالة الاحتجاج الاجتماعي (معطلون، تنسيقيات، الأسعار، دورات الاحتجاج في المدن الصغرى)، ومن حالة التظاهر العمومي، بناء على التعاطف الشعبي مع قضايا قومية أو وطنية، إلى حالة احتجاج بهوية سياسية معلنة.
من جهة أخرى، قد تعتبر هذه الدينامية الاحتجاجية/الشبيبية، كذلك، امتداداً طبيعياً لتعبيرات ثقافية وفنية وموسيقية، ظلت حاضرة، منذ أكثر من عشر سنوات على الأقل، داخل شبيبتنا الحضرية، وهي تعبيرات وأنماط من السلوك الفني والثقافي، لم تكن تخفي هواجسها السياسية، أو على الأقل تجسيدها لهوية اجتماعية وجيلية حضرية استطاعت التماهي مع شبكة من الرموز والمرجعيات التي وفرت لها مكاناً مميزاً داخل الفضاء العمومي.
كانت هذه الدينامية تعني، كذلك، إعادة انتشار الفعل السياسي من داخل المؤسسات نحو الشارع، ومن داخل الفضاء الإعلامي العمومي نحو الفضاء الافتراضي. وهنا، فإن دينامية فبراير 2011 هي، كذلك، هذا الاستثمار الهائل لإمكانات شبكات التواصل الاجتماعي. لكن، من دون أن نجعل من كل عناصر التحليل والمقاربة مختبئة وراء "أسطورة الإنترنت". نعم إن الوسيلة في عالم التواصل جزء من المضمون، لكن تحويلها إلى عامل محدد لكل الظاهرة السياسية/الاجتماعية قد يبدو مجانباً للتحليل الرصين.
سياسياً، بدت هذه الدينامية مثل لحظة حاملة لمعادلة جديدة للإصلاح السياسي والدستوري، معادلة تتجاوز المحاورة الثنائية التي ظلت تطبع ملف الإصلاحات المؤسساتية، بين الأحزاب الوطنية والديمقراطية والدولة. ما جعل بعضهم، بتسرع، يعتبر أن الأمر يتعلق بفاعل جديد سيشكل جزءاً من مستقبل المشهد السياسي المغربي وبنيته، في حين اعتبر آخرون أن مَكمن الجدة يتعلق باستراتيجيات تعبوية جديدة وبأساليب مختلفة، حتى ولو تعلق الأمر بالمطالب القديمة نفسها التي ظلت حاضرة في ذاكرة "العمل الديمقراطي والمدني" منذ عقود.
نعم، شكلت تجربة الحراك المغربي بعض اللحظات النادرة في حياتنا السياسية، وحالة مدرسية لتلك "العودة المفاجئة" للسياسة، لكن السؤال الذي يهمنا إثارته، هنا، هو بالضبط سؤال الاحتفاظ بهذا النفس وهذه الروح داخل المؤسسات وداخل الثقافة السياسية للنخب وللفاعلين، وهو رهان مرتبط بدرجة الإنصات والفهم المتبادل بين مكونات المجتمع السياسي والمدني في علاقة باستيعابها تحديات إدماج الشباب في مرافعاتها وبرامجها ونمط أدائها، ومن جهة أخرى، الفعاليات الشبابية في علاقة بدرجة قابليتها لتعزيز مختلف الديناميات المدنية والسياسية، على مختلف الواجهات والصعد.
قرئت هذه الدينامية، في لحظتها المباشرة، مؤشراً على تحولات عميقة في النسيج الاجتماعي، توحي بميلاد مجتمع المواطنين، القادر على التعبير الذاتي عن مطالبه، من دون الحاجة إلى المرور الحتمي عن طريق الوساطات "التقليدية"، خصوصاً مع توفره على إمكانات ولوج سهل إلى "الساحة العامة"، لكن تتالي الوقائع والأحداث أكد أن هذه الأُطر والبنيات المدنية والحزبية والشبيبية، بعيداً عن منطق القطيعة، وحدها المؤهلة لتمثل روح تلك الهبة الشبابية، والقادرة على إحداث تراكم إيجابي بين جميع الأجيال، وترصيد كل الجهود ومختلف التعبيرات، دعماً لأفق الديمقراطية ودولة حقوق الإنسان في المغرب.