03 سبتمبر 2024
عن السميك والرقيق... إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية
سعيد زيداني
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.
في تعريف هذا الذي يسمّى "دولة إسرائيل اليهودية والديمقراطية" مركبان أساسيان، واضحان ومميزان، تقترن بكل منها، وتنساب عن كل منهما حزمةٌ من الالتزامات. المركبان هما اليهودي القومي والديمقراطي الليبرالي. وكلما كانت حزمة الالتزامات سميكة (thick) لأحد المركبيْن كانت رقيقة (thin) أو أقل سمكاً للمركب الآخر. بكلماتٍ أخرى، كلما زاد سمك حزمة الالتزامات للمركب اليهودي (القومي أو/ والديني) صار المركب الديمقراطي (الليبرالي) رقيقاً أكثر أو أقلّ سمكاً، والعكس صحيح. هذا، بالطبع، من وجهة نظر المواطنين غير اليهود أساساً (وإن لم يكن حصراً). والحديث هنا، بطبيعة الحال، ليس عن علاقة تناقضٍ منطقيٍّ بين المركبيْن المذكوريْن، بقدر ما هو عن علاقة زيادة أو نقصان، إفراط أو تفريط، في نوع الالتزامات التي تنضوي تحت كل من المركبيْن المتنافسين والمتنافرين، ووزنها وحجمها. غني عن القول، في هذا الصدد، إن الزيادة في سمك المركب اليهودي (القومي أو/ والديني) تتبعها وتقابلها زيادةٌ في مجالات أو/ ودرجات التمييز والإقصاء والتهميش بحق المواطنين غير اليهود، أساساً الفلسطينيين، داخل دولة إسرائيل.
وإذا كان اليمين القومي/ الديني، من طرفٍ، يسعى حثيثاً إلى زيادة سمك المركب اليهودي في تعريف الدولة (كما يحدث أخيرا)، وعلى حساب ديمقراطيتها، فإن اليسار الديمقراطي الليبرالي، من الطرف الآخر، يسعى جاهداً إلى زيادة سمك المركب الديمقراطي، وإنْ كان على حساب يهوديتها. بمعانٍ أخرى، اليمين القومي/ الديني (رئيس حزب البيت اليهودي، نفتالي بنيت، مثلاً) يريد لإسرائيل أن تكون يهوديةً بالحدّ الأقصى، بينما يريد اليسار الليبرالي (رئيسة حزب ميرتس، زهافا جالؤون، مثلاً) أن تكون إسرائيل، في المقابل، ديمقراطيةً بالحدّ الأقصى. وهذا يفسّر كثيراً التوتر والتنافر بين الصهيونية الناعمة، أو القومية الليبرالية (liberal nationalism) من جهة، واليمين القومي/ الديني، أو الصهيونية "الصلبة"، من جهة أخرى. أما بقية الأحزاب والحركات الصهيونية فتنتشر، أو تتأرجح، بين هذين الطرفين المتنافسين والمتنافرين.
صهيونية الحدّ الأدنى، أو الصهيونية الناعمة، يجسّدها حزب ميرتس وأنصاره والحائمون في
فضائه الأيديولوجي، ومنطلقاتها الأساسية هي: على إسرائيل أن تكون، وأن تظل، ذات أغلبية ساحقة من المواطنين اليهود، وللمدى البعيد. على إسرائيل أن تكون، وأن تظل، مفتوحةً لاستقبال اليهود أينما كانوا، ومتى أرادوا القدوم أو الهجرة إليها (قانون العودة). أمن إسرائيل، سواء الداخلي أو الخارجي، يجب أن يكون، وأن يظل، بأيد يهودية. وانسجاماً مع هذه المنطلقات الثلاثة، وباتساقٍ معها، يؤكد حزب ميرتس (والقومية الليبرالية في إسرائيل عموماً) على: القبول بقيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل وشرقها، وبسلام وتعاون معها. القبول بتساوي مواطني دولة إسرائيل من الفلسطينيين في حقوق المواطنة الديمقراطية، شريطة أن يتم ذلك تحت سقف يهودية الدولة، كما هو مبين أعلاه. ضد الإكراه الديني، تماماً كما ضد فرض الأخلاق الخاصة (private morality). ومن هنا، التوتر الملازم مع المتدينين المتعصبين، صهيونيين كانوا أو غير ذلك.
أما حسب صهيونية الحدّ الأقصى، أو القومية الصلبة (hard nationalism)، والتي يجسّدها بنيت، وحزبه البيت اليهودي، وأنصاره من اليمين القومي/ الديني، والحائمون في فضائه الأيديولوجي، فإن المركّب اليهودي في تعريف الدولة سميك للغاية (كما نحن شاهدون وناقمون على ذلك هذه الأيام). ويجد هذا السمك المفرط/ تجلياته الإضافية في نفي السيادة الفلسطينية عن أي جزءٍ من فلسطين التاريخية، وذلك إلى جانب تسمين الطابع الديني للدولة، بما يعنيه ذلك أو ينتج عنه من انتقاصٍ من الحقوق والحريات المتساوية للمواطنين الأفراد، يهوداً علمانيين كانوا أو غير يهود على السواء. أضف إلى ذلك، يظل اليمين القومي/ الديني يسعى جاهداً إلى تقليم أظافر محكمة العدل العليا، والتي تجنح عادة إلى توسيع رقعةٍ محميةٍ من الحقوق والحريات في المجالات المختلفة. وإذا كان الأمر كذلك، لا غرابة أن ينقضّ اليمين القومي/ الديني، كما يتضح بجلاء في السنوات الأخيرة، على الصهيونية الناعمة من جهة، وعلى الحقوق الجماعية والوطنية الفلسطينية من جهة أخرى.
على ضوء نظرة عين الطائر (كما يُقال) على طرفي الحركة الصهيونية، حزب ميرتس
وأنصاره من طرف، وحزب البيت اليهودي وأنصاره من الطرف الآخر، يمكننا استكناه آفاق العلاقة المستقبلية مع كل منهما وحدودها، وكذلك مع الأحزاب والحركات التي تنتشر أو تتأرجح بينهما بدرجاتٍ اقترابٍ أو ابتعاد متفاوتة. هذا أولاً. أما ثانياً، والأهم للغرض هنا، فيخصّ مدى سمك كل من المركبين، الديمقراطي (الليبرالي) والقومي (الديني)، في هويتنا الجمعية، نحن الفلسطينيين داخل إسرائيل. وفي هذا الشأن الجلل أقول: ما يلزمنا، وما يفيدنا، وما نحن حقاً توّاقون اليه، هو تيارٌ أو تجمعٌ ديمقراطيٌّ قوميٌّ يعرف جيداً كيف يوازن ويوفق بين التزامات كل من المركبيْن في هويتنا الجمعية، الديمقراطي والقومي، مع إعطاء المركب الأول أسبقيةً على الثاني، في حال التعارض أو التصادم بينهما.
بكلماتٍ أخرى، ما نحتاج إليه، وما أنجذب وأتوق إليه شخصياً، هو تيارٌ أو تجمعٌ جامع، ديمقراطي قومي، لا يكون فيه المركب القومي أكثر سمكاً من المركب الديمقراطي (الليبرالي). وفي اعتقادي، إن هذا التجمع أو التيار، إن وجد، يساعدنا كثيراً، نحن الفلسطينيين داخل إسرائيل، في مجال الرد، المبدئي والعملي، على التحدّيات التى نواجهها، وكذلك في مجال اتخاذ المواقف الواجبة من القضايا الأساسية التي تشغلنا، العالقة منها والمستجدة: سواء على صعيد إشكاليات المواطنة في الدولة، أو على صعيد تعقيدات الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي (اليهودي)، أو على صعيد الصراعات الدامية في دول العالم العربي، والذي يحترق أمام أعيننا بنيران التعصب القومي والمذهبي، كما بنيران نقمةٍ تغذّت على الحرمان من ممارسة المواطنة الديمقراطية المتساوية في الحقوق.
وإذا كان اليمين القومي/ الديني، من طرفٍ، يسعى حثيثاً إلى زيادة سمك المركب اليهودي في تعريف الدولة (كما يحدث أخيرا)، وعلى حساب ديمقراطيتها، فإن اليسار الديمقراطي الليبرالي، من الطرف الآخر، يسعى جاهداً إلى زيادة سمك المركب الديمقراطي، وإنْ كان على حساب يهوديتها. بمعانٍ أخرى، اليمين القومي/ الديني (رئيس حزب البيت اليهودي، نفتالي بنيت، مثلاً) يريد لإسرائيل أن تكون يهوديةً بالحدّ الأقصى، بينما يريد اليسار الليبرالي (رئيسة حزب ميرتس، زهافا جالؤون، مثلاً) أن تكون إسرائيل، في المقابل، ديمقراطيةً بالحدّ الأقصى. وهذا يفسّر كثيراً التوتر والتنافر بين الصهيونية الناعمة، أو القومية الليبرالية (liberal nationalism) من جهة، واليمين القومي/ الديني، أو الصهيونية "الصلبة"، من جهة أخرى. أما بقية الأحزاب والحركات الصهيونية فتنتشر، أو تتأرجح، بين هذين الطرفين المتنافسين والمتنافرين.
صهيونية الحدّ الأدنى، أو الصهيونية الناعمة، يجسّدها حزب ميرتس وأنصاره والحائمون في
أما حسب صهيونية الحدّ الأقصى، أو القومية الصلبة (hard nationalism)، والتي يجسّدها بنيت، وحزبه البيت اليهودي، وأنصاره من اليمين القومي/ الديني، والحائمون في فضائه الأيديولوجي، فإن المركّب اليهودي في تعريف الدولة سميك للغاية (كما نحن شاهدون وناقمون على ذلك هذه الأيام). ويجد هذا السمك المفرط/ تجلياته الإضافية في نفي السيادة الفلسطينية عن أي جزءٍ من فلسطين التاريخية، وذلك إلى جانب تسمين الطابع الديني للدولة، بما يعنيه ذلك أو ينتج عنه من انتقاصٍ من الحقوق والحريات المتساوية للمواطنين الأفراد، يهوداً علمانيين كانوا أو غير يهود على السواء. أضف إلى ذلك، يظل اليمين القومي/ الديني يسعى جاهداً إلى تقليم أظافر محكمة العدل العليا، والتي تجنح عادة إلى توسيع رقعةٍ محميةٍ من الحقوق والحريات في المجالات المختلفة. وإذا كان الأمر كذلك، لا غرابة أن ينقضّ اليمين القومي/ الديني، كما يتضح بجلاء في السنوات الأخيرة، على الصهيونية الناعمة من جهة، وعلى الحقوق الجماعية والوطنية الفلسطينية من جهة أخرى.
على ضوء نظرة عين الطائر (كما يُقال) على طرفي الحركة الصهيونية، حزب ميرتس
بكلماتٍ أخرى، ما نحتاج إليه، وما أنجذب وأتوق إليه شخصياً، هو تيارٌ أو تجمعٌ جامع، ديمقراطي قومي، لا يكون فيه المركب القومي أكثر سمكاً من المركب الديمقراطي (الليبرالي). وفي اعتقادي، إن هذا التجمع أو التيار، إن وجد، يساعدنا كثيراً، نحن الفلسطينيين داخل إسرائيل، في مجال الرد، المبدئي والعملي، على التحدّيات التى نواجهها، وكذلك في مجال اتخاذ المواقف الواجبة من القضايا الأساسية التي تشغلنا، العالقة منها والمستجدة: سواء على صعيد إشكاليات المواطنة في الدولة، أو على صعيد تعقيدات الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي (اليهودي)، أو على صعيد الصراعات الدامية في دول العالم العربي، والذي يحترق أمام أعيننا بنيران التعصب القومي والمذهبي، كما بنيران نقمةٍ تغذّت على الحرمان من ممارسة المواطنة الديمقراطية المتساوية في الحقوق.
سعيد زيداني
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.
سعيد زيداني
مقالات أخرى
16 اغسطس 2024
24 يونيو 2024
01 يونيو 2024