احتشد آلاف الشيوعيين خلال الأسبوع الأخير لوداع ثلاثة من أبرز قيادات الحزب الشيوعي اللبناني في العقود الأخيرة. استحق العمر أمانته، فودعوا أحد القادة التاريخيين للحزب، جورج بطل. وحضر المرض العضال وتعقيداته خاطفاً كلاً من القائد العسكري السابق في جبهة المقاومة اللبنانية، كمال البقاعي، والمسرحي، الممثل والمخرج رضوان حمزة. رحل هذا الثلاثي في أسبوع واحد، متمكناً من إعادة لمّ الحالة الشيوعية بمختلف انتماءاتها السياسية وخلافاتها التنظيمية والشخصية. وكأنّ الموت وحده قادر على جمع آلاف الشيوعيين، فيجتمع هؤلاء فقط في المآتم وحول الجثامين، في الكنائس أو الجوامع، ويمشون وراء النعوش منكّسي الرؤوس.
لكن الأزمة الأكبر هي في كون هذه التجمّعات تنجح فقط لأنها تعيد الجمهور الشيوعي إلى الماضي، إلى زمن "جمول" في حالة البقاعي، وحزب التنظيم الحديدي في حالة بطل، وعهد النضال الثقافي المضمحل في حالة حمزة. كأن الشيوعيين يأتون إلى هذه المآتم لدفن تاريخهم والاعتراف بخسارة شخصيات لن تتكرّر في تجاربها المتعدّدة. حتى ولو أنّ الراحلين يستحقّون أكثر لما بذلوه من تضحيات فعلية في سبيل مشروع سياسي شابته أخطاء، أكان في المعاداة التلقائية لفئات طائفية واجتماعية أو في تجربة الحرب الأهلية وإسقاطاتها، وثم في التراجع السياسي أمام "القوى الظلامية" وحلفائها من أوصياء البعث، بعدما تم إقصاء المقاومة الوطنية ضد إسرائيل بالقوة لحصرها بهوية إسلامية.
اليوم، لا يريد كثير من الشيوعيين الاعتراف بأن مناصرة حرية الشعوب، والديمقراطية، ومعاداة الأنظمة العربية الدموية والقمعية، ونبذ العنف الأهلي والاختلاف السياسي والعقائدي مع الأحزاب الإسلامية الراديكالية، ولو حملت هذه الأخيرة خطاب "تحرير فلسطين"، يجب أن تكون في صميم الهوية اليسارية العروبية التنويرية. حتى الدفاع عن حرية التعبير والمعتقد والحرية الجنسية، لا تزال مقارباتها يشوبها التخلّف لدى فئات يسارية عديدة. يفترض أن تكون هذه العناوين بديهية في خطاب الشيوعيين، تماماً كمسلّمة القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في العودة. هذا الإجماع لم يحصل، ولن يحصل طالما أنّ بعض الشيوعيين يكتفون بالسير وراء النعوش، كمن يمضي وراء التاريخ.